غير مصنف

الذهب يتربع على العرش: كيف يقود المعدن الأصفر تحولات الاقتصاد العالمي في 2025

 

في كل منعطف تاريخي يشهد اهتزازات كبرى في السياسة والاقتصاد، يعود الذهب ليتصدر المشهد. وكأن هذا المعدن النفيس، الذي رافق البشرية منذ آلاف السنين، لا يعرف الأفول. اليوم، ونحن في خريف 2025، يقف الذهب عند مفترق طرق تاريخي جديد، بعد أن قفز فوق حاجز 3800 دولار للأوقية، مقترباً من 4 آلاف دولار، في مستويات غير مسبوقة تثير أسئلة عميقة حول الاقتصاد العالمي، الدولار الأميركي، والسياسات النقدية للبنوك المركزية.

هذا الارتفاع القياسي ليس مجرد رقم يزين الشاشات، بل هو مرآة تعكس أزمة ثقة عالمية متفاقمة، وتغيرات استراتيجية كبرى في موازين القوى المالية. الذهب اليوم ليس مجرد سلعة أو أصل استثماري، بل أصبح عنواناً لمرحلة جديدة من التاريخ الاقتصادي، حيث تتداخل السياسة مع المال، والمخاوف مع الطموحات، والملاذات الآمنة مع رهانات المستقبل.

لماذا يقفز الذهب الآن؟

عند قراءة المشهد الراهن، تتضح أمامنا عدة عوامل مترابطة دفعت بأسعار الذهب إلى هذا الارتفاع القياسي.

  1. سياسات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي
    بعد سنوات من تشديد السياسة النقدية لمواجهة التضخم، بدأ البنك المركزي الأميركي دورة جديدة من خفض الفائدة، في محاولة لإنقاذ اقتصاد يتباطأ بوضوح. ومع كل خفض للفائدة، يفقد الدولار جزءاً من جاذبيته، بينما يكتسب الذهب المزيد من اللمعان.
  2. ضعف الدولار
    المؤشر الذي يقيس قوة الدولار أمام سلة من العملات الرئيسية واصل التراجع، ما جعل الذهب – المقوم بالدولار – أقل كلفة لحائزي العملات الأخرى. وكلما تراجع الدولار، كلما ارتفعت جاذبية المعدن الأصفر كبديل موثوق.
  3. الاضطرابات السياسية في واشنطن
    من الضغوط المتزايدة التي يمارسها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على مجلس الاحتياطي الفيدرالي، إلى التهديدات بإقالة رئيسه جيروم باول، وصولاً إلى احتمالات إغلاق حكومي يلوح في الأفق. هذه الأزمات السياسية تقوض الثقة في المؤسسات الأميركية، وتفتح الباب واسعاً أمام الذهب ليكون الملاذ الأكثر أماناً.
  4. المخاطر الجيوسياسية العالمية
    من استمرار الحرب في أوكرانيا، إلى الحرب في غزة، مروراً بتوترات شرق آسيا والخليج، يزداد الطلب على الأصول الآمنة. الذهب، تاريخياً، هو الخيار الأول في مثل هذه الأزمات.
  5. طلب البنوك المركزية
    في ظل عالم يتجه نحو تعددية الأقطاب، تتجه البنوك المركزية، خصوصاً في آسيا والشرق الأوسط، إلى زيادة احتياطياتها من الذهب. ليس فقط لأسباب اقتصادية، بل أيضاً لأسباب سياسية واستراتيجية، بهدف تقليل الاعتماد على الدولار والحد من تأثير العقوبات الأميركية.

الذهب والفضة: معادلة الصعود المزدوج

صحيح أن الذهب يتصدر العناوين، لكن الفضة تتحرك على خطاه. فقد تجاوزت أسعارها 46 دولاراً للأوقية، مدفوعة بارتفاع الطلب الاستثماري والصناعي في آن واحد.

على عكس الذهب، الذي يرتبط أساساً بالملاذات الآمنة، فإن الفضة تحمل وجهاً مزدوجاً:

  • وجه استثماري يجعلها تتحرك مع الذهب.
  • وجه صناعي يرتبط بقطاعات التكنولوجيا والطاقة المتجددة، خصوصاً الخلايا الشمسية والإلكترونيات الدقيقة.

هذا ما يجعل الفضة أكثر تقلباً من الذهب، لكنها في الوقت نفسه قادرة على تحقيق قفزات أكبر في فترات قصيرة.

اللاعب الخفي وراء ارتفاع الذهب

ما يحدث اليوم في سوق الذهب لا يمكن فهمه من دون النظر إلى دور البنوك المركزية. خلال الأشهر الماضية، أعلنت عدة بنوك مركزية غير غربية عن إضافة عشرات الأطنان من الذهب إلى احتياطياتها.

هذه الخطوة ليست مجرد استثمار، بل هي رسالة سياسية تقول بوضوح:

“لم يعد الدولار وحده سيد الموقف.”

البنوك المركزية في الصين، روسيا، الهند، تركيا، وحتى بعض دول الخليج، تسعى إلى تعزيز استقلالها المالي وتقليل تعرضها لهيمنة الدولار، خاصة في ظل سياسة العقوبات الأميركية المتصاعدة.

إضافة الذهب إلى الاحتياطيات الرسمية بهذا الشكل المكثف يجعل الارتفاع الحالي أكثر رسوخاً واستدامة، ويعطي إشارات واضحة للمستثمرين الأفراد والمؤسسات بأن الاتجاه الصاعد لم ينته بعد.

التاريخ يعيد نفسه

كل أزمة كبرى في العالم كانت تقود إلى قفزة في أسعار الذهب:

  • في سبعينيات القرن الماضي، بعد انهيار نظام “بريتون وودز” وربط الدولار بالذهب.
  • في الأزمة المالية العالمية عام 2008، حينما فقدت الأسواق ثقتها في البنوك الكبرى.
  • أثناء جائحة كورونا 2020، مع موجة الطباعة غير المسبوقة للنقود.

واليوم، في 2025، تتكرر المعادلة: ركود تضخمي يلوح في الأفق، شكوك في السياسة النقدية الأميركية، اضطرابات جيوسياسية، وضعف متزايد في الدولار.

هل يصل الذهب إلى 4000 دولار؟

هذا هو السؤال الأكثر تداولاً الآن بين المستثمرين والمحللين. التقديرات الحالية تتراوح بين:

  • سيناريو متفائل: وصول الذهب إلى 4000 دولار قبل نهاية العام، مدفوعاً بتسارع خفض الفائدة وتفاقم الأزمات السياسية.
  • سيناريو معتدل: بقاء الذهب بين 3600 – 3900 دولار مع تذبذبات قوية مرتبطة بالبيانات الاقتصادية.
  • سيناريو حذر: تراجع محدود إذا أظهرت البيانات الأميركية بعض التحسن أو إذا تدخل الاحتياطي الفيدرالي بسياسات مفاجئة.

لكن المؤكد أن الاتجاه العام لا يزال صاعداً، وأن الذهب يحتفظ بمكانته كأقوى أصل استثماري في هذه المرحلة.

الرهان الأكثر خطورة

رغم صعودها القوي، تبقى الفضة أكثر حساسية للتقلبات. السبب يعود إلى أن نصف الطلب العالمي عليها يأتي من الاستخدامات الصناعية. أي أن أي تباطؤ في الاقتصاد العالمي قد يضغط عليها، حتى وإن استمر الذهب في الصعود.

لكن هذا لا يمنع أن المستثمرين الذين يبحثون عن أرباح سريعة يرون فيها فرصة ذهبية، خاصة إذا واصل الذهب كسر الحواجز التاريخية.

خيارات متنوعة

مع الارتفاعات الحالية، يزداد إقبال المستثمرين الأفراد على الذهب. الخيارات المتاحة متعددة:

  1. الذهب المادي: سبائك، عملات، حُلي.
  2. الصناديق المتداولة (ETFs) مثل “إس بي دي آر غولد تراست”.
  3. العقود الآجلة التي تتيح الاستفادة من المضاربات قصيرة الأمد.
  4. الأسهم المرتبطة بالذهب مثل شركات التعدين والإنتاج.

لكن، كما يحذر المحللون، الاستثمار في الذهب يتطلب حذراً. فهو أصل لا يدر عائداً مباشراً (مثل الفائدة أو الأرباح)، وإنما يعتمد على تغير الأسعار.

مستقبل الذهب في النظام المالي العالمي

ربما الأهم من الأسعار الحالية هو التحول البنيوي الذي يشهده العالم:

  • تراجع الثقة بالدولار كعملة احتياطية عالمية.
  • صعود الذهب كبديل استراتيجي.
  • انتقال بعض الاقتصادات الكبرى نحو تعزيز دور الذهب في التجارة الدولية وتسوية المدفوعات.

إذا استمرت هذه الاتجاهات، فقد نشهد خلال العقد المقبل تحولاً جوهرياً في موقع الذهب داخل النظام المالي العالمي، من مجرد ملاذ آمن إلى ركيزة أساسية في معادلة القوة الاقتصادية.

اضطراب النظام المالي

الذهب اليوم ليس مجرد معدن يلمع في واجهات متاجر المجوهرات. إنه مؤشر على اضطراب النظام المالي العالمي، ورمز لانعدام الثقة في المؤسسات القائمة، وأداة استراتيجية في يد الدول والمستثمرين على حد سواء.

قد يتذبذب سعره هنا أو هناك، لكنه في المدى الطويل يثبت مرة تلو الأخرى أنه الحارس الأخير للقيمة، والملاذ الذي لا يخذل أصحابه.

في عالم يموج بعدم اليقين، يتربع الذهب مجدداً على العرش، مشكلاً عنوان المرحلة ومرآة الأزمات والآمال معاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *