غير مصنف

ضبابية الأسواق… النفط بين مطرقة السياسة وسندان العرض

في صباح رمادي جديد من أسواق الطاقة، لم تكن الحركة في أسواق النفط سوى انعكاس دقيق لتقلبات جيوسياسية واقتصادية تتشابك خيوطها عبر القارات، في لحظةٍ تاريخية ترزح تحت ثقل الضبابية والشكوك. وبينما بدأت عقود خام برنت وغرب تكساس الوسيط الأسبوع بارتفاع طفيف لا يتجاوز تسعة سنتات للبرميل، فإن هذه القفزة المتواضعة لا تخفي هشاشة الوضع الراهن، حيث تظل الأسواق معلقة بين مؤشرات متضاربة تتراوح بين محادثات تجارية باهتة، وضغوط معروضة متزايدة، ومخاوف مستجدة من تصعيد إقليمي.

عناوين مشوشة… وأسواق تائهة

لا تزال المحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين ـ التي يفترض أن تكون أداة تهدئة ـ بمثابة صدى متكرر دون مضمون، حيث يتقاذفها الجانبان بتصريحات متضادة. ففي حين لوّح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أكثر من مناسبة بأن المفاوضات تتقدم بخطى واثقة، سارعت بكين إلى نفي أي حوار فعلي، تاركة الأسواق العالمية في حالة ترقب وتوجس.

ولم يكن تصريح وزير الخزانة الأميركي، سكوت بيسنت، سوى تعميق لهذا الغموض، إذ أحجم عن تأكيد وجود محادثات جارية مع الصين، مما فتح الباب على مصراعيه أمام تكهنات بعودة الاحتكاكات التجارية، وما تعنيه من اضطرابات محتملة في سلاسل الإمداد، وانكماش في النمو العالمي، وتآكل في شهية الأسواق للطاقة.

أوبك+ على مفترق طرق

وكأن الأسواق لا تكفيها متاعب الحرب التجارية، حتى عاد شبح التخمة المعروضة ليؤجج المخاوف مجدداً. إذ تترقب الأسواق اجتماع “أوبك+” المرتقب في الخامس من مايو، وسط ترجيحات قوية بأن تتجه المنظمة إلى تسريع وتيرة زيادة الإنتاج للشهر الثاني توالياً، استجابةً لضغوط بعض الأعضاء الراغبين في استعادة حصصهم السوقية في ظل انتعاش أسعار الخام.

مايكل مكارثي، الرئيس التنفيذي لمنصة “مومو أستراليا” للتداول، أشار إلى أن المضاربين بدأوا يتخذون مراكز قصيرة تحسباً لاحتمال رفع الإمدادات، لا سيما في ظل الارتفاع المتسارع في إنتاج النفط الصخري الأميركي. وإذا صحت هذه التوقعات، فإن السوق قد تستقبل ضخّاً إضافياً من الخام لا تقابله زيادة مماثلة في الطلب، وهو ما ينذر بانعكاسات سلبية على الأسعار.

الأسبوع الماضي كان جرس إنذار

البيانات التي اختتمت بها الأسواق أسبوعها الماضي لم تكن مشجعة، إذ فقد خام برنت وخام غرب تكساس الوسيط أكثر من 1% من قيمتهما، بفعل مزيج من الضغوط، أهمها احتمالات زيادة المعروض، والتوترات السياسية، والتصريحات المتناقضة من واشنطن وبكين. وقد جاء هذا التراجع ليؤكد هشاشة التوازن الذي كانت السوق قد بلغته مؤخراً، وليعزز الحاجة إلى وضوح أكبر من اللاعبين الكبار في السوق.

البعد الجيوسياسي: إيران في الصورة

بعيداً عن الجغرافيا التجارية بين بكين وواشنطن، هناك مفصل جيوسياسي لا يقل أهمية يتبلور في الخليج. فقد استؤنفت هذا الأسبوع المحادثات النووية غير المباشرة بين طهران وواشنطن في سلطنة عُمان، وسط أجواء لا تخلو من الحذر. وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي وصف المفاوضات بأنها “محفوفة بالريبة”، وهو ما يعكس مستوى التوتر وعدم الثقة الذي لا يزال يطغى على الملف النووي الإيراني.

وتكتسب هذه المحادثات بعداً إضافياً في سوق النفط، إذ أن أي اختراق في هذا الملف قد يفضي إلى رفع العقوبات عن صادرات النفط الإيراني، وهو ما يعني – من الناحية العملية – دخول ما يقرب من مليون برميل يومياً إلى السوق العالمية، ما لم تتم السيطرة عليه بمقايضات خفض من أطراف أخرى في أوبك+.

صورة أكبر… وسؤال المستقبل

ما نشهده اليوم ليس مجرد تقلبات سعرية في سوق النفط، بل حالة من إعادة تشكّل العلاقات الاقتصادية والجيوسياسية، تضع اللاعبين الرئيسيين أمام استحقاقات صعبة. الولايات المتحدة تجد نفسها ممزقة بين حماية مصالحها الاقتصادية واحتواء طموحات الصين، بينما تحاول أوبك+ أن تحفظ توازن السوق دون أن تخسر حصصها في ظل ازدهار إنتاج النفط الصخري الأميركي.

وبين هذا وذاك، تقف السوق في منتصف الموج، متأرجحة على وقع تغريدة من رئيس، أو بيان من وزارة، أو شائعة عن اجتماع. إنها لحظة تستوجب من المستثمرين والمراقبين ألا يكتفوا بقراءة الأرقام والمؤشرات، بل أن يغوصوا عميقاً في خلفيات السياسات، ومآلات التفاعلات الدولية، ومرونة أدوات التحكم في العرض والطلب.

نحو استراتيجية إنقاذ للسوق

الوصفة السحرية غير موجودة، لكن المؤكد أن استقرار السوق لن يتحقق دون توافق دولي واضح بشأن خفض التصعيد، سواء على صعيد التوترات التجارية أو في الملفات الساخنة كالنووي الإيراني. كما أن على أوبك+ أن تعيد النظر في إستراتيجيتها المرحلية، فلا يكفي مجرد التلويح بزيادة أو خفض في الإنتاج، بل لا بد من خطاب واضح، وشفافية في النوايا، لضبط توقعات السوق ومنع الانفلات السعري.

وفي المقابل، يحتاج البيت الأبيض إلى سياسة خارجية أكثر اتزاناً، تحترم قواعد اللعبة الدبلوماسية وتكف عن استخدام أسعار النفط كسلاح تفاوضي في معارك انتخابية أو تجارية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *