غير مصنف

الدولار بين سندان الفائدة ومطرقة التضخم: أين تتجه الأسواق العالمية؟

لم يكن يوم الأربعاء يوماً عادياً في أسواق المال العالمية، ولم يكن قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بخفض أسعار الفائدة ربع نقطة مجرد خطوة تقنية في السياسة النقدية، بل كان صدىً مدوياً هزَّ جدران الأسواق من نيويورك إلى طوكيو، مروراً بلندن وفرانكفورت والقاهرة. فحين يتكلم الفيدرالي، تنصت البنوك المركزية، وحين يتحرك الدولار، ترتعش بقية العملات.

الدولار في لحظة مفصلية

ارتفع الدولار الأميركي قليلاً صباح الخميس بعد أن شهد أسوأ تراجع له منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة، ليؤكد مرة أخرى أن العملة الخضراء لا تسقط بسهولة. فقد هبط مؤشر الدولار إلى 96.224 مباشرة بعد إعلان قرار الفائدة، وهو أدنى مستوى منذ فبراير/شباط 2022، لكنه سرعان ما انتفض ليغلق عند 97.074، قبل أن يستقر عند 97.163 في اليوم التالي.

هذه القفزة لم تكن مجرد حركة عابرة؛ بل انعكاس لمزيج من القلق والترقب والرهان على المستقبل. فبينما يرى البعض أن الفيدرالي يسير بخطى ثابتة نحو دورة جديدة من التيسير النقدي، يخشى آخرون أن تكون معركة التضخم لم تُحسم بعد.

رؤية باول: إدارة المخاطر لا الاستسلام لها

جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وصف خفض الفائدة بأنه “إجراء لإدارة المخاطر”، مؤكداً أن السوق لا يواجه كارثة، لكن الفيدرالي يفضل أن يسبق الأزمة قبل وقوعها. كلام باول بدا رسالة مزدوجة: طمأنة للمستثمرين من جهة، وتحذيراً بأن الباب لا يزال مفتوحاً أمام خطوات أعمق إذا ما لزم الأمر.

قراءة خريطة الفيدرالي: خفض اليوم.. حذر الغد

الرسم البياني لتوقعات السياسة النقدية كشف عن نوايا لمزيد من التخفيضات بواقع نصف نقطة مئوية إضافية خلال اجتماعي العام المتبقيين، بينما توقفت التوقعات عند خفض واحد فقط في عام 2026. هذا التباين أرسل إشارة واضحة: السياسة النقدية الأميركية أمام طريق غير ممهد، حيث يختلط فيه الحذر بالمرونة.

أوروبا: يورو متأرجح تحت ضغط الدولار

في الجانب الأوروبي، تراجع اليورو 0.2% ليستقر عند 1.1791 دولار بعد أن بلغ ذروته عند 1.19185، وهو أعلى مستوى منذ يونيو/حزيران 2021. هذه الحركة تكشف أن اليورو لم يستطع استغلال ضعف الدولار المؤقت طويلاً، إذ سرعان ما استعاد الأخير موقعه على الساحة.

المراقبون في بروكسل وفرانكفورت يدركون أن أي إضعاف إضافي لليورو قد يزيد من تعقيد معركة التضخم في منطقة اليورو، حيث تظل أسعار الطاقة والغذاء أكبر هاجس لصانعي القرار.

بريطانيا: الفائدة في مرمى التضخم

الجنيه الإسترليني لم يكن أفضل حالاً، فقد تراجع إلى 1.3604 دولار بعد أن سجل مستوى 1.3726 في الجلسة السابقة. ومع إعلان بنك إنجلترا قراره المنتظر، تميل التوقعات إلى الإبقاء على أسعار الفائدة عند 4%، خصوصاً بعد أن أظهرت البيانات الرسمية أن التضخم السنوي بلغ 3.8% في أغسطس/آب.

بالنسبة للبنك، أي خفض للفائدة الآن سيكون بمثابة مغامرة في ظل التضخم المرتفع، فيما يعني التثبيت إبقاء الضغوط على الاقتصاد البريطاني الذي يعاني من تباطؤ النمو.

اليابان: سياسة التردد الطويل

الين الياباني شهد تقلبات ملحوظة، حيث تراجع الدولار إلى 145.495 ين ثم ارتفع مجدداً إلى 147.245. هذه التحركات جاءت في وقت يتوقع فيه معظم المحللين أن بنك اليابان سيحجم عن رفع الفائدة في اجتماعه، مع بقاء الاحتمالات مفتوحة لزيادة بمقدار ربع نقطة بحلول مارس/آذار المقبل.

الاقتصاد الياباني، المحاصر بين تباطؤ الطلب المحلي وضغوط التضخم المستورد، يجد نفسه في وضع لا يحسد عليه، إذ يخشى من رفع الفائدة بشكل سريع قد يضر بالنمو الضعيف.

كندا وأستراليا ونيوزيلندا: أسواق العمل تحت المجهر

في كندا، خفض البنك المركزي أسعار الفائدة ربع نقطة، مبرراً خطوته بضعف سوق العمل وتراجع المخاوف التضخمية. الدولار الكندي استقر نسبياً عند 1.3790 مقابل نظيره الأميركي.

أما الدولار الأسترالي فتراجع 0.4% إلى 0.6628 بعد بيانات صادمة أظهرت انخفاضاً في الوظائف بواقع 5400 وظيفة في أغسطس، مقابل توقعات بزيادة كبيرة. في نيوزيلندا، كان المشهد أكثر قتامة، إذ تراجع الدولار النيوزيلندي 0.9% إلى 0.5909، وهو أدنى مستوى له منذ بداية الشهر.

الأسواق الناشئة: الضغوط تتزايد

تداعيات السياسة النقدية الأميركية لم تقتصر على الاقتصادات الكبرى؛ فقد انعكست بوضوح على أسواق ناشئة مثل العراق وإيران ومصر. ففي بغداد، تراجع الدينار العراقي أمام الدولار مع نهاية الأسبوع، بينما شهد الريال الإيراني مزيداً من الهبوط وسط التهديدات الأوروبية بتفعيل “آلية الزناد” المرتبطة بالاتفاق النووي. وفي القاهرة، حيث ما تزال أزمة العملات الأجنبية تضغط على السوق، حافظ الدولار على سطوته أمام الجنيه المصري.

معضلة الفيدرالي: التضخم أولاً أم النمو؟

المشهد العالمي اليوم يعكس معضلة كلاسيكية تواجهها البنوك المركزية: هل الأولوية لكبح التضخم مهما كلف الأمر من تباطؤ اقتصادي؟ أم أن الحفاظ على وتيرة نمو مستقرة يستدعي التخفيف من وطأة الفائدة المرتفعة؟

الجواب ليس سهلاً. فإذا استمر التضخم عند مستويات مرتفعة، فإن خفض الفائدة قد يفاقم الأزمة. أما إذا تراجع التضخم بشكل ملحوظ، فقد يكون المجال مفتوحاً أمام خطوات أكثر جرأة في التيسير النقدي.

الدولار في عين العاصفة

رغم التراجعات المؤقتة، يظل الدولار في موقع القوة النسبية مقارنة ببقية العملات. فاقتصاد الولايات المتحدة ما يزال الأكثر جذباً للاستثمارات، بفضل حجمه ومرونته. غير أن هذه القوة قد تتحول إلى عبء إذا ما واصل الفيدرالي سياسة الحذر دون وضوح، وهو ما قد يضعف ثقة المستثمرين على المدى البعيد.

عالم على مفترق طرق

قرار الفيدرالي بخفض الفائدة لم يكن نهاية القصة بل بدايتها. فالعالم يدخل مرحلة جديدة من عدم اليقين، حيث تراقب كل دولة تأثير السياسة الأميركية على أسواقها المحلية. أوروبا تحاول موازنة التضخم مع الاستقرار المالي، بريطانيا تقف عند مفترق حساس، اليابان تواجه اختباراً لعقود من السياسة النقدية المرنة، بينما تعاني الأسواق الناشئة من ضغط مزدوج: قوة الدولار وضعف عملاتها.

في النهاية، يبقى الدولار هو البوصلة التي تحدد اتجاه الأسواق. ومع كل قرار للفيدرالي، يعيد العالم ترتيب أوراقه. وبينما ينظر المستثمرون إلى المستقبل، يظل السؤال معلقاً: هل يستطيع الفيدرالي تحقيق التوازن بين النمو وكبح التضخم دون أن يدفع الاقتصاد العالمي ثمناً باهظاً؟

الاشتراك في خدمات شركة أمواج كابيتال

إذا كنت ترغب في الاستفادة من التقلبات الاقتصادية في الأسواق العالمية، يمكنك الآن
فتح حساب في شركة أمواج كابيتال من هنا.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *