شرارة الاتفاق في زمن العواصف
في صباح الحادي عشر من يونيو 2025، كان العالم على موعد مع إعلان لا يُشبه سواه: “إطار عمل” جديد وُلد في لندن بعد مفاوضات شاقة بين وفدي الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية الصين الشعبية. لم يكن الأمر مجرّد بيان بروتوكولي أو إعلان نوايا دبلوماسي، بل محاولة جادة — وربما أخيرة — لكبح جماح أكبر صراع اقتصادي شهده العالم منذ انتهاء الحرب الباردة.
في عواصم المال والتجارة، استُقبل الاتفاق بين عملاقي الاقتصاد العالمي بمزيج من الترقّب الحذر والأمل المكبوت. فهو من جهة يحمل تباشير خفض للتوتر الجمركي والتقني، ومن جهة أخرى لا يزال محاطًا بغموض التنفيذ، وهي النقطة التي غالبًا ما تتحوّل إلى مقبرة للاتفاقات الطموحة.
لكن ما الذي حدث حقًا؟ كيف وصلنا إلى هذه اللحظة؟ وهل يمكن لهذا الإطار أن يُعيد بناء جسر الثقة المكسور بين بكين وواشنطن؟ وما هي التداعيات على الأسواق، والصناعات الاستراتيجية، والديناميكيات السياسية العالمية؟ هذا العدد الخاص يُقدّم تحليلًا عميقًا لما بعد “اتفاق لندن”، انطلاقًا من تشخيص خلفياته، إلى تلمّس ملامح مستقبل الاقتصاد العالمي في ضوئه.
من حرب الرسوم إلى حوار المعادن: مسار أزمة عمّرت عقدًا
بدأت القصة كما هو الحال في أغلب التحولات التاريخية الكبرى: بشعارات وطنية، وأرقام جمركية خيالية، وعناوين انتخابية نارية. منذ تولّي الرئيس دونالد ترامب ولايته الأولى في 2017، بدأت استراتيجية “أميركا أولًا” بإعادة رسم خريطة التجارة الدولية، وفرضت الولايات المتحدة سلسلة من الرسوم الجمركية على منتجات صينية تجاوزت 100%، في مسعى معلن لتقليص العجز التجاري وإعادة الوظائف الصناعية إلى الداخل الأميركي.
الرد الصيني جاء متأخرًا لكنه كان مؤلمًا. بكين، وهي تحتفظ بترسانة احتكارية من المعادن النادرة وتقنيات التصنيع المتقدمة، استخدمت أدواتها بحذر، لكنها لم تتراجع. ومع مرور السنوات، توسعت ساحة النزاع لتشمل الرقائق الإلكترونية، والذكاء الاصطناعي، والطاقة النظيفة، وحتى الأبحاث العلمية.
أدت هذه الحرب الاقتصادية إلى اضطراب في سلاسل الإمداد العالمية، وارتفاع أسعار الشحن، وخلق مناخ تجاري دولي تُسيطر عليه الريبة والارتجال. في ظل ذلك، ظهرت محاولات متفرقة للتهدئة — من “اتفاق جنيف” في مايو الماضي، إلى مفاوضات باريس الفاشلة، وأخيرًا اتفاق لندن التاريخي الذي عُقد بين 10 و11 يونيو الجاري.
إطار لندن”: تفاصيل الاتفاق وما وراءه
خلافًا للاتفاقات السابقة، يُقدّم “إطار لندن” ثلاث نقاط تحوّل جوهرية:
• تخفيض مشترك للرسوم الجمركية على بعض السلع الاستراتيجية، أبرزها السيارات الكهربائية، والخلايا الشمسية، والرقائق الإلكترونية.
• ضمانات لتدفق مستقر للمعادن النادرة من الصين إلى الولايات المتحدة، ضمن خطة سنوية تُقدَّم سلفًا وتخضع لرقابة مزدوجة.
• رفع جزئي للعقوبات التقنية الأميركية المفروضة على شركات تكنولوجيا صينية، مقابل التزام صيني بعدم استخدام تلك التكنولوجيا في التطبيقات العسكرية.
لكن رغم هذا الزخم، يبقى الاتفاق “إطارًا” وليس معاهدة نهائية. فهو يحتاج إلى تصديق من الرئيسين ترامب وشي جين بينغ، وتمرير في الكونغرس الأميركي، وموافقة ضمنية من القيادة الصينية العليا — وهذه كلها تحديات سياسية حقيقية.
لماذا يُعد الاتفاق نقطة تحول استراتيجية؟
على السطح، قد يبدو الاتفاق مجرد خطوة لتخفيف التوترات. لكن ما يخفيه أعظم: هو اعتراف متبادل بأن الاستمرار في الحرب التجارية أصبح عبئًا اقتصاديًا وأمنيًا على الجانبين. فالصين تواجه تباطؤًا اقتصاديًا، وارتفاعًا في البطالة بين الخريجين التقنيين، وضغطًا داخليًا متصاعدًا. بينما الولايات المتحدة تخشى تآكل ريادتها التقنية، واستمرار اعتمادها على واردات حرجة لا يمكن تعويضها محليًا.
هنا تظهر أهمية المعادن النادرة التي تستخدم في كل شيء من الهواتف الذكية إلى أنظمة الدفاع الصاروخي. الصين تملك أكثر من 70% من إنتاج العالم من هذه المعادن، وهي تدرك أن هذه الورقة لا يمكن استخدامها دون قيود، وإلا انقلب السحر على الساحر.
الملاحظات المحورية: نقاط القوة… ومكامن الخطر
إيجابيات واضحة:
• إعادة تدفق المعادن النادرة يعيد الروح لصناعات حيوية في الولايات المتحدة.
• خفض التوتر الجمركي ينعش التبادل التجاري، ويُقلل من اضطراب سلاسل التوريد العالمية.
• فتح مسار للتعاون التقني المشروط يُعيد بعض الثقة المفقودة بين الطرفين.
تحديات معقّدة:
• غياب جدول زمني واضح لتنفيذ الاتفاق يجعل الأسواق والمستثمرين في حالة ترقّب.
• رفض صريح من بعض النواب الأميركيين الذين يعتبرون الاتفاق “تراجعًا خطيرًا”.
• قلق أوروبي وآسيوي من أن يتحوّل الاتفاق إلى تحالف ثنائي مغلق يُقصي الشركاء الآخرين.
الأسواق تترقب، والمحللون يحذّرون: لا اتفاق بلا آليات تنفيذ
رغم أن الأسواق استقبلت الخبر بإيجابية نسبية، إلا أن الحذر كان السيّد. مؤشر S&P500 ارتفع بنسبة طفيفة، بينما انخفضت العقود الآجلة على أسهم شركات التكنولوجيا نتيجة عدم اليقين في تفاصيل العقوبات التقنية. في آسيا، قفزت أسهم شركات المعادن النادرة، لكن المحللين أجمعوا: “التحسن لن يستمر إلا إذا ظهر التزام حقيقي بالتنفيذ”.
الصين: تهدئة تكتيكية أم شراكة استراتيجية؟
بكين، من جهتها، توازن بين المكاسب التكتيكية والاحتفاظ بأدوات الضغط. نعم، اتفاق المعادن يعطيها دورًا رئيسيًا في استقرار السوق العالمي، لكنه في المقابل يجعلها أكثر عرضة للمطالبات بالمزيد من الشفافية والتخلي عن سياسات الدعم الحكومي التي طالما اعتبرها الغرب غير عادلة.
المندوب الصيني في لندن، لي تشينغ غانغ، صرّح بأن “الاتفاق متوازن ويُراعي السيادة الاقتصادية”، وهي عبارة تعني الكثير في لغة بكين الدبلوماسية.
الرهان على الوقت: كيف سيتصرف البيت الأبيض والكونغرس؟
الرئيس ترامب احتفى بالاتفاق على منصته “تروث سوشيال”، واصفًا إياه بأنه “تاريخي”، ومؤكدًا أن “العلاقة مع الصين لم تكن أفضل من الآن”. لكن التحدي الحقيقي يكمن في إقناع الكونغرس الجمهوري والديمقراطي على حد سواء بأن هذا الاتفاق يخدم المصالح الأميركية، ولا يُعرّض أمنها التكنولوجي للخطر.
داخل الكونغرس، يُتوقع صراع محتدم بين:
• المحافظين الجمهوريين الذين يُطالبون باستمرار الضغط على الصين.
• الديمقراطيين التقدميين الذين يطالبون بضمانات حول حقوق العمال وحماية البيئة.
الآثار العالمية: من طوكيو إلى برلين
الاتفاق، رغم طابعه الثنائي، يُعيد ترتيب الحسابات الاقتصادية للدول الكبرى. في أوروبا، هناك قلق من أن تتهمّش القارة في النظام التجاري العالمي الجديد. أما الدول الآسيوية مثل اليابان وكوريا، فقد بدأت بالفعل بتفعيل اتفاقيات تجارية ثنائية للحد من اعتمادها على المسارات المتقلّبة في الصراع الأميركي-الصيني.
ما بعد الإطار – هل هو بداية سلام اقتصادي جديد؟
رغم كل التحديات، يبقى “إطار لندن” فرصة ثمينة لتصحيح مسار علاقة شابها سوء الظن والانكفاء الوطني. هو بمثابة خط أول في رواية جديدة نأمل ألا تبقى مجرّد مسودة على طاولة تفاوض مغلقة.
الكرة الآن في ملعب القادة — ليس فقط ترامب وشي، بل كل القوى المؤثرة من البرلمانات، إلى لوبيات المصالح، إلى الشركات الكبرى. فالاتفاقات الناجحة لا تُبنى فقط على الأوراق، بل على الالتزام، والرقابة، والقدرة على الصمود أمام الضغوط السياسية الآنية.
قد يكون هذا الاتفاق الفرصة الأخيرة قبل انفجار دورة جديدة من التصعيد — أو اللبنة الأولى في عهد تجاري عالمي جديد أكثر توازنًا.
كل ذلك يعتمد على ما سيفعله الجميع بعد لحظة لندن.
كيف يُعيد إطار واشنطن-بكين تشكيل مستقبل التجارة الدولية؟
11
يونيو