غير مصنف

حين تتوقف الصواريخ… وتتنفّس الأسواق: قراءة في زمن التهدئة المؤقتة

في الرابع والعشرين من يونيو 2025، دوّى إعلان غير اعتيادي في المشهد العالمي، صادر لا عن قاذفة أو بارجة، بل عن البيت الأبيض. وبنبرة بدا فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب كما لو كان يمضي توقيعًا جديدًا في سلسلة اتفاقاته السياسية، أعلن وقفًا شاملًا لإطلاق النار بين إيران وإسرائيل، بعد اثني عشر يومًا من تصعيد خطير هدد بإشعال المنطقة برمّتها.

ما إن خفتت أصوات الانفجارات، حتى ارتفعت وتيرة مؤشرات التداول. الأسواق، التي طالما كانت مرآة للقلق الجيوسياسي، التقطت أنفاسها سريعًا. وتحوّلت صفحات الأخبار من تقارير الضربات العسكرية إلى تحليلات اقتصادية لردود فعل النفط، الذهب، الدولار، وأسواق السندات. مشهد يتكرر في كل مرة تخرج فيها الأزمة من عنق الزجاجة، لكنّ المشهد هذه المرة كان مختلفًا من حيث حجم التداعيات، وسرعة الانعكاسات.

فما الذي جرى تحديدًا؟ ولماذا كان هذا الإعلان مختلفًا؟ وكيف تفاعلت الأسواق؟ وماذا يقول المنطق الاقتصادي حيال المستقبل؟ في هذا المقال، نحلل أبرز التحولات من قلب الحدث، متتبعين خيوط التفاعل بين السياسة والاقتصاد، بين الدبلوماسية والسوق، في لحظة يُعاد فيها رسم التوازنات الهشة في واحدة من أكثر مناطق العالم تأثيرًا في النظام المالي العالمي.

لحظة التحوّل… من ضباب التصعيد إلى مفاوضات الهدنة

الأزمة بدأت بهجوم سيبراني واسع النطاق استهدف منشآت حيوية داخل إيران، تبعته غارات جوية إسرائيلية على مواقع يُشتبه بتطويرها برنامجًا نوويًا متقدمًا. وردّت طهران، وفق مصادر متطابقة، بإطلاق وابل من الصواريخ على مواقع عسكرية في الجولان وداخل العراق. ومع تصاعد الضربات المتبادلة، دخلت الولايات المتحدة على خط الأزمة، لا طرفًا مباشرًا، بل “ضابطًا للإيقاع”، عبر وساطة قادتها دولة قطر بجهود دبلوماسية ماراثونية ومكثفة.

في غمرة التوتر، ووسط تحركات بحرية وجوية مكثفة، برز الإعلان الأميركي بوصفه لحظة فارقة. بيان مقتضب حمل وقعًا كبيرًا: هدنة شاملة، التزام متبادل، وضمانات ضمنية من واشنطن بعدم الانجرار إلى مواجهة مفتوحة. الردود الدولية كانت مرحّبة إجمالًا، وإن اتسم بعضها بالحذر، فيما بدأت البورصات تترجم الحدث إلى أرقام ومعادلات جديدة.

أسواق الطاقة.. من قلق الإمدادات إلى انفتاح الخيارات

ربما كانت سوق النفط هي الأسرع استجابة لنبأ الهدنة. فخلال أقل من ساعة على الإعلان، هبط خام برنت بأكثر من 3%، مسجلًا 69.12 دولارًا للبرميل، وهو أدنى مستوى منذ أبريل الماضي. خام غرب تكساس تبعه، متراجعًا إلى 66.19 دولارًا. التحليل الفوري لهذا الانخفاض لا يقتصر على انتهاء التصعيد، بل يشير إلى انفتاح محتمل في الإنتاج الإيراني، وعودة التوريد بكامل الطاقة للأسواق العالمية، لا سيما في آسيا.

ومع أن منطقة الخليج العربي، بما فيها المملكة العربية السعودية والإمارات والكويت، استمرت في تأدية دورها الاستراتيجي كمصدر موثوق ومستقر للطاقة، فإن الأسواق أظهرت ارتياحًا حذرًا لإمكانية تفادي مزيد من الاضطرابات في مضيق هرمز، الذي تمر عبره نحو 20% من إمدادات النفط العالمية.

الهدوء في سوق النفط لا يعني نهاية التقلبات. فالأمر مرهون بالاستقرار الجيوسياسي، وتطورات الطلب العالمي، خاصة مع دخول الاقتصاد الصيني مرحلة تباطؤ جديد، وظهور مؤشرات متباينة من الاقتصادات الأوروبية. الأسواق تحسب احتمالات، لا وعودًا.

الذهب يتخلّى عن بريقه مؤقتًا

الذهب، كعادته في الأزمات، شهد في ذروة التصعيد إقبالًا كثيفًا من المستثمرين الباحثين عن “الملاذ الآمن”. لكن مع بدء التهدئة، انعكست الصورة. تراجع سعر الأونصة إلى 3324 دولارًا في السوق الفورية، بعدما بلغ ذروته عند 3480 دولارًا. الخسارة التي تجاوزت 1.3% تعبّر عن عودة جزئية لشهية المخاطرة، ودخول سيولة جديدة إلى أسواق الأسهم والعملات.

ورغم التراجع، يرى محللون أن الذهب قد لا يتخلى بسهولة عن دوره الأساسي في هذه المرحلة، خصوصًا مع استمرار الغموض حول السياسات النقدية الأميركية، واحتمالات العودة إلى الخلافات داخل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، إضافة إلى الترقب لقرارات البنوك المركزية الأخرى، لاسيما في منطقة اليورو وآسيا.

الدولار يترنّح… وتحوّل في مزاج العملات

شهد الدولار الأميركي تراجعًا طفيفًا مقابل سلة العملات، متأثرًا بتراجع المخاوف الجيوسياسية، والأنباء عن إمكانية تقارب بين السياسة المالية للإدارة الأميركية، وسياسات الفيدرالي. في المقابل، شهدت عملات مثل الين الياباني واليورو صعودًا لافتًا، فيما ارتفعت عملات المخاطرة مثل الدولار الأسترالي والنيوزيلندي.

لكنّ الصورة ليست بسيطة. فالسوق لا تتحرك على وقع السياسة فقط، بل تتأثر أيضًا بمؤشرات التضخم، معدلات النمو، وسياسات الرسوم الجمركية. وكلها عناصر متغيرة. الدولار اليوم في وضع انتقال، لا في مرحلة تراجع مستقر.

أسواق السندات.. التهدئة لا تكفي لإزالة القلق

رغم التحسن في مؤشرات المخاطرة، لا تزال سوق السندات الأميركية ترسل إشارات مختلطة. تراجعت عوائد السندات لأجل 10 سنوات إلى 4.33%، فيما انخفضت عوائد السندات طويلة الأجل إلى أقل من 4.9%. المستثمرون لا يركنون إلى الهدوء الميداني فقط، بل ينظرون بقلق إلى خطط الإنفاق الفيدرالية، والتوتر المتجدد حول سقف الدين الأميركي، والجدل المستمر بين البيت الأبيض والفيدرالي حول خفض الفائدة.

ما زالت “قنبلة الدين” موقوتة. والتهدئة السياسية، رغم أهميتها، لا تُطفئ فتيل الخلافات البنيوية داخل الاقتصاد الأميركي.

الخليج العربي… ركيزة الاستقرار ومركز الثقل الاقتصادي

في هذا المشهد العالمي المضطرب، تبرز دول الخليج العربي بوصفها حجر الأساس في استقرار أسواق الطاقة والتجارة. فقد أظهرت دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، مستوى عاليًا من الحنكة السياسية والقدرة على ضبط التوازنات، سواء عبر إدارة الإنتاج النفطي، أو من خلال مساهمتها في تهدئة التوترات الإقليمية.

وعلى صعيد الأسواق، نجحت البورصات الخليجية في الحفاظ على أدائها المتماسك، مستفيدة من ارتفاع السيولة، واستمرار الإنفاق الاستثماري في البنية التحتية والقطاعات غير النفطية، ضمن رؤية اقتصادية تنموية بعيدة المدى. المستثمرون العالميون يتجهون بثقة إلى منطقة باتت تمثل نموذجًا متقدمًا للتنمية الاقتصادية والسياسية المتزنة.

ما الذي ينتظر الأسواق؟

من الواضح أن الهدنة الحالية، رغم ترحيب الأسواق بها، لا تمثّل نهاية القصة. فالعديد من التساؤلات تبقى مطروحة:

هل ستصمد الهدنة أمام أي حادث ميداني طارئ؟

هل تنجح واشنطن في ضبط مسار التصعيد خلال الحملة الانتخابية المقبلة؟

هل تواصل إيران وإسرائيل إدارة الخلافات ضمن خطوط حمراء غير معلنة؟

ماذا عن دور القوى الكبرى مثل روسيا والصين في التوازنات الجديدة؟

الأسواق، في جوهرها، لا تحب المفاجآت. لكنها أيضًا تجيد التفاعل مع الأحداث إذا توافرت الشفافية والسياسات المستقرة.

من يربح ومن يخسر؟

في المدى القصير، يمكن تحديد الفائزين والخاسرين كما يلي:

الرابحون: أسواق الأسهم العالمية، العملات المرتبطة بالنمو، الدول الصناعية المستوردة للطاقة، الشركات اللوجستية، والمستثمرون في الأصول عالية المخاطر.

الخاسرون: الذهب، النفط، الدولار، شركات الدفاع، وبعض صناديق التحوط التي راهنت على استمرار التصعيد.

لكن في المدى الطويل، يتوقف الربح والخسارة على قدرة الدول والشركات والمستثمرين على قراءة المتغيرات، والتكيّف مع لحظات عدم اليقين.

الأسواق تنصت، لكنها لا تنام

إن لحظة التهدئة الحالية تمثل فرصة لالتقاط الأنفاس، لكنها ليست نهاية لموجات القلق العالمي. الجغرافيا السياسية لا تنضبط بالتقويم الاقتصادي، ولا تُدار دائمًا بمنطق الربح والخسارة. من هنا، فإن مسؤولية صناع القرار – سياسيين واقتصاديين – هي تحويل لحظة الهدوء إلى استراتيجية استقرار طويلة الأمد.

في أمواج الأسواق، لا يكفي أن تركب القارب الصحيح، بل يجب أن تعرف متى تُبحر، ومتى تُرسي. والتحليل الرصين، لا العناوين الصاخبة، هو البوصلة الحقيقية.

ونحن في هذه الصحيفة، نضع على عاتقنا مسؤولية مواكبة التحولات، لا برومانسية العناوين، بل بدقّة التحليل، وصرامة المعلومة. لقد قالت الأسواق كلمتها هذا الأسبوع. أما الرواية الكاملة، فسنواصل كتابتها، يومًا بيوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *