غير مصنف

بين واشنطن وبكين: سباق الذكاء الاصطناعي وإعادة رسم موازين القوى العالمية

في عالمٍ يزداد تشابكًا وتعقيدًا، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد أداة تقنية بين أيدي الشركات الناشئة أو مختبرات الأبحاث، بل تحوّل إلى محرك استراتيجي يعيد رسم ملامح الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية وحتى الأمن القومي. ومع كل طفرة في هذه التكنولوجيا، يتزايد إدراك العواصم الكبرى بأن السباق الدائر ليس حول التفوق في إنتاج أدوات أكثر ذكاءً فحسب، بل حول امتلاك زمام المبادرة في بناء المستقبل.

وسط هذا السياق، برزت تصريحات سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، التي حملت تحذيرًا صريحًا من خطأ استراتيجي أميركي يتمثل في التقليل من شأن التقدّم الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي. تحذير لم يصدر من سياسي أو خبير استراتيجي، بل من قلب صناعة الذكاء الاصطناعي نفسها. كلمات ألتمان تعكس حقيقة صعبة: إذا اكتفت واشنطن بفرض قيود على تصدير الرقائق إلى بكين، فإنها تخاطر بأن تفقد موقعها الريادي أمام خصم قادر على التكيّف بسرعة غير مسبوقة.

هكذا نبدأ رواية هذا العدد الخاص. سباق الذكاء الاصطناعي لم يعد منافسة تقنية فحسب، بل معركة كبرى تحدّد من يملك المستقبل.

السباق يتجاوز الرقائق: منظومة كاملة من القوة

لطالما ركّزت الولايات المتحدة في مواجهتها مع الصين على ورقة الرقائق المتقدمة، معتبرة أن السيطرة على هذه التكنولوجيا ستمنحها تفوقًا طويل الأمد. غير أن نظرة أوسع تكشف أن الذكاء الاصطناعي ليس رهينة العتاد وحده.

السباق اليوم يشمل أربعة عناصر أساسية:

  1. البيانات الضخمة: الصين تملك قاعدة بشرية ومجتمعية ضخمة توفر كمًّا هائلًا من البيانات الخام، ما يمنحها ميزة في تدريب النماذج على نطاق واسع.
  2. الأبحاث العلمية: الجامعات والمراكز البحثية الصينية تضاعف إنتاجها العلمي بوتيرة سريعة، ما يجعلها منافسًا لا يُستهان به في مجال النشر العلمي المرتبط بالذكاء الاصطناعي.
  3. البرمجيات مفتوحة المصدر: شركات صينية كبرى أطلقت نماذج مفتوحة المصدر، مما يتيح سرعة في التطوير والانتشار، ويخلق بدائل منافسة للنماذج الغربية.
  4. التطبيق التجاري: الصين تُعرف بقدرتها على تحويل الابتكارات النظرية إلى منتجات تجارية بسرعة هائلة، كما حدث في التجارة الإلكترونية والهواتف الذكية والتكنولوجيا المالية.

بهذا المعنى، فإن امتلاك الرقائق ليس كافيًا إذا لم يُدعَم بمنظومة متكاملة. وهنا تكمن خطورة الخطأ الأميركي الذي أشار إليه ألتمان.

الصين: قدرة استثنائية على التكيّف

منذ عقود، أثبتت بكين أنها بارعة في تحويل الضغوط إلى محفزات. المثال الأشهر هو شركة هواوي. حين فرضت واشنطن قيودًا صارمة على وصولها إلى نظام التشغيل “أندرويد”، كان الرهان الأميركي أن الشركة ستنهار. لكن النتيجة جاءت عكسية. هواوي استثمرت مليارات في تطوير بدائل محلية، واليوم تعود بقوة إلى المنافسة في سوق الهواتف الذكية.

هذا النمط ليس استثناءً، بل هو سمة عامة في التجربة الصينية. كلما وُضعت أمام قيود خارجية، تحوّلت إلى فرصة لبناء استقلال تقني جديد. وإذا كانت الرقائق الأميركية عائقًا اليوم، فالأرجح أنها ستكون شرارة لتسريع صناعة محلية بديلة خلال سنوات قليلة.

واشنطن بين العقوبات والاستثناءات

الولايات المتحدة، من جانبها، تراوحت سياستها بين التشدد والمرونة. إدارة بايدن شددت القيود على تصدير الرقائق المتطورة، بينما ذهب الرئيس السابق دونالد ترامب أبعد، فقرر إيقاف التوريد بشكل كامل في أبريل الماضي. لكن، وبشكل متناقض، منحت واشنطن مؤخرًا استثناءً يسمح ببيع بعض الرقائق “الآمنة للصين”، شرط أن تقوم شركات مثل Nvidia وAMD بتحويل نسبة من عائداتها إلى الحكومة الفيدرالية.

هذه الازدواجية تعكس مأزقًا استراتيجيًا. فمن جهة، تريد أميركا كبح طموحات بكين. ومن جهة أخرى، تخشى من خسارة عوائد مالية ضخمة إذا فقدت الشركات الأميركية السوق الصينية. وبين هذا وذاك، يظل السؤال قائمًا: هل تملك واشنطن استراتيجية متماسكة بالفعل، أم أنها تكتفي بردود أفعال تكتيكية؟

تصريحات مهينة… وردود صينية غاضبة

أحد أبرز المحطات الأخيرة تمثّل في تصريحات وزير التجارة الأميركي هوارد لوتنيك، حين قال إن الصين لا تحصل على أفضل الرقائق الأميركية، ولا ثاني أفضلها، ولا حتى ثالثها، بل تُترك عند “المستوى الرابع”.

هذه الكلمات أثارت غضب بكين، التي اعتبرتها إهانة مباشرة. الرد الصيني جاء سريعًا عبر إدارة الفضاء السيبراني التي طلبت من شركات كبرى مثل علي بابا وبايت دانس التوقف عن تقديم طلبات جديدة لرقاقات إنفيديا. كما أصدرت اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح تعليمات للشركات المحلية بتجنّب شراء الرقائق الأميركية، تفاديًا للوقوع في تبعات قانونية أو غرامات محتملة.

بهذه الطريقة، لم تكتف الصين بالاحتجاج الدبلوماسي، بل وظّفت الأزمة لتعزيز الاعتماد على الذات وتسريع بناء سلاسل توريد محلية.

نقطة الضعف القاتلة: وهم السيطرة عبر الرقائق

التصريحات الأميركية التي توحي بتفوق دائم قد تمنح واشنطن شعورًا زائفًا بالأمان. لكن الواقع أكثر تعقيدًا. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أجهزة. إنه منظومة ديناميكية يمكن أن تتفوّق فيها البرمجيات والخوارزميات والبيانات على العتاد.

هذا ما يحذّر منه خبراء الصناعة. إذا استمرت واشنطن في حصر المنافسة في زاوية واحدة، فإنها تترك الباب مفتوحًا أمام الصين لتبني استراتيجيات بديلة. وما التاريخ القريب إلا شاهد: كل محاولة لعزل الصين عن التكنولوجيا العالمية تحولت إلى نقطة انطلاق لابتكار داخلي أسرع.

إغلاق المنافذ… استراتيجية دفاعية طويلة الأمد

السياسة الأميركية الحالية تقوم على مبدأ “إغلاق المنافذ”. كلما اكتشفت واشنطن قناة تلجأ إليها بكين للحصول على الرقائق أو التقنيات، سارعت إلى سدّها. هذا النهج يبطئ التقدم الصيني بلا شك، لكنه يفرض أيضًا على الولايات المتحدة تكلفة سياسية واقتصادية كبيرة.

وفي الوقت ذاته، تستثمر واشنطن في بناء مصانع متقدمة داخل أراضيها لتعزيز استقلالها. هذه الخطوات تعكس إدراكًا بأن السباق مع الصين لن يُحسم بقرار واحد، بل بسلسلة من الإجراءات التراكمية. لكن، هل يكفي هذا النهج الدفاعي لمجاراة سرعة الصين في الابتكار؟

الاقتصاد العالمي على المحك

لا يمكن النظر إلى سباق الذكاء الاصطناعي بمعزل عن الاقتصاد العالمي. هذه التكنولوجيا تُعدّ اليوم البنية التحتية للاقتصاد الرقمي، من التجارة الإلكترونية إلى الخدمات المالية، ومن الطاقة إلى الأمن السيبراني. أي تفوق في هذا المجال يعني مكاسب اقتصادية هائلة.

الصين تدرك هذه الحقيقة، ولهذا تستثمر مليارات الدولارات سنويًا في تطوير الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته. الولايات المتحدة من جانبها تخصص ميزانيات ضخمة أيضًا، لكن الفارق أن بكين تملك قاعدة سكانية هائلة تُنتج بيانات وابتكارات على نطاق لا تستطيع أي دولة أخرى مجاراته بسهولة.

منطق السوق لا يعترف بالحدود

حتى لو شددت واشنطن القيود، فإن الشركات العالمية ستظل تبحث عن السوق الصينية. 1.4 مليار نسمة يعني سوقًا لا يمكن تجاهلها. شركات التكنولوجيا الأميركية، من إنفيديا إلى آبل، تجد نفسها عالقة بين مطرقة السياسة وسندان السوق.

هذا التناقض سيبقى نقطة ضعف في الاستراتيجية الأميركية. فكلما حاولت واشنطن تقليص حضور شركاتها في الصين، زادت الفرص أمام منافسين محليين صينيين للسيطرة على السوق وتعزيز مواردهم المالية.

بين الأمن القومي والابتكار

يبقى التحدي الأكبر أن السباق على الذكاء الاصطناعي ليس مجرد منافسة اقتصادية، بل يتعلق مباشرة بالأمن القومي. الذكاء الاصطناعي يدخل في كل شيء: من تطوير الأسلحة الذكية إلى مراقبة الحدود وتحليل البيانات الاستخباراتية. لهذا السبب، تنظر واشنطن إلى التفوق في هذا المجال كمسألة وجودية.

لكن السؤال الأهم: هل تستطيع أميركا أن توازن بين حماية أمنها القومي والحفاظ على ريادتها في سوق عالمي يتطلب الانفتاح والتعاون؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها ستحدد ملامح العقد المقبل.

سباق لا ينتهي

الذكاء الاصطناعي ليس سباق مائة متر يُحسم عند خط النهاية، بل ماراثون طويل يتطلب صبرًا واستراتيجيات مرنة. الصين أثبتت قدرتها على التكيف وتحويل العقوبات إلى فرص. والولايات المتحدة، رغم قوتها، تخاطر إذا اكتفت بالرهان على العقوبات والقيود.

الدرس الأبرز من تحذير سام ألتمان هو أن معركة القرن لن تُحسم بالرقائق وحدها، بل بالمنظومة الكاملة: البحث، البيانات، البرمجيات، والتطبيق التجاري.

وفي عالم تتغير معادلاته بسرعة، يظل الأجدر بالولايات المتحدة أن تدرك أن الاعتماد على الشعور بالتفوق لن يحفظ لها الصدارة. فكما قال أحد المحللين: “في سباق الذكاء الاصطناعي، لا يكفي أن تكون الأول، بل يجب أن تبقى الأول.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *