غير مصنف

بين الغاز والنار: الشرق الأوسط يتقاطع مع الاقتصاد العالمي

 

في لحظةٍ فارقة من التاريخ الاقتصادي المعاصر، يشهد العالم حدثًا غير عابر، لا يمكن اختزاله في عنوان سياسي أو مناوشة عسكرية. الضربة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت منشآت الطاقة الإيرانية – وتحديدًا منصة المرحلة 14 من حقل “بارس الجنوبي” – تتجاوز كونها عملية عسكرية إلى كونها نقطة تحوّل استراتيجية في معادلة الطاقة الإقليمية والعالمية.

حقل بارس: ضربة في القلب الاقتصادي لإيران

في فجر 14 يونيو 2025، اشتعلت منصة الغاز الإيرانية في حقل “بارس الجنوبي” نتيجة غارة جوية تبنّتها إسرائيل ضمن سياق تصعيد متواصل في المنطقة. الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية كانت كبيرة، لكن ما هو أكبر من ذلك هو حجم التداعيات التي ستمتد إلى أسواق الطاقة العالمية.

“بارس الجنوبي”، الذي تشاركه إيران مع قطر، يُعدّ من أكبر حقول الغاز في العالم، وتنتج منه إيران نحو 275 مليار متر مكعب سنويًا، يُستهلك محليًا في ظل العقوبات الدولية. هذا الحقل ليس مجرد مورد طاقة، بل أحد أعمدة الاقتصاد الإيراني ومحور تكامل استراتيجي مع قطاعات الصناعة، والكهرباء، والنقل، وحتى الأمن الغذائي.

طاقة تحت التهديد: التداعيات الاقتصادية الفورية

في غضون ساعات من الضربة، قفزت أسعار النفط العالمية بأكثر من 12%، ليصل خام برنت إلى نحو 78 دولارًا، وخام غرب تكساس إلى 76 دولارًا، وهو أعلى مستوى لهما منذ جائحة كورونا. الأسواق لم تكن بحاجة إلى أكثر من إشارة على اختلال التوازن الجيوطاقي حتى تبدأ موجة التصحيح السعري، مدفوعة بالخوف من تعطل الإمدادات أو امتداد النزاع.

الذهب، كملاذ تقليدي، تجاوز 3425 دولارًا للأونصة، فيما قفز الين الياباني وانخفضت الأسهم في الأسواق الآسيوية. حتى العملات الرقمية، التي تُسوق كأصول تحوّطية، تعرضت لموجة بيع مكثفة، في دلالة على دخول رؤوس الأموال في وضعية دفاعية.

مضيق هرمز يعود إلى الواجهة

كلما اقتربت النيران من الخليج العربي، يعود الحديث عن مضيق هرمز، الذي يمر عبره نحو 20% من تجارة النفط العالمية. أي تصعيد يهدد إغلاق المضيق سيؤدي تلقائيًا إلى رفع أسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة. تصريحات مسؤولين عراقيين بأن البرميل قد يصل إلى 300 دولار في حال التصعيد لم تعد مجرد تخمينات، بل سيناريوهات محتملة تتداولها بيوت المال العالمية.

تحوّل نوعي في أدوات الصراع

تقليديًا، كانت منشآت الطاقة تُعتبر “خطًا أحمرًا”، حتى في ذروة الحروب. لكن استهداف البنية التحتية لحقل الغاز الأضخم في المنطقة يكشف عن تحوّل في قواعد الاشتباك: من ضرب مواقع نووية وعسكرية إلى استخدام أداة الطاقة كرافعة للضغط الاقتصادي.

الهدف واضح اقتصاديًا: تعطيل قدرة إيران على تمويل قطاعاتها الحيوية، وخلق بيئة من عدم الاستقرار الطاقي تُربك أسواق الغاز والنفط، وتفرض إعادة تموضع استثماري على شركات الطاقة العالمية.

قطر في المنتصف: هل تتأثر الإمدادات الأوروبية؟

على الجانب القطري، يُعرف الحقل ذاته بـ”حقل الشمال”، وتُعد قطر من أكبر منتجي الغاز الطبيعي المسال عالميًا، بنحو 77 مليون طن سنويًا. في ظل اعتماد أوروبا المتزايد على الغاز القطري بعد تقليص الاعتماد على روسيا، فإن أي اضطراب في هذه المنشآت يُعد تهديدًا مباشرًا لأمن الطاقة الأوروبي.

حتى وإن لم تُصب البنية القطرية بشكل مباشر، فإن وجود الحقل كمنطقة مشتركة يجبر الدوحة على الدخول في حسابات أمن طاقي إقليمية لم تعد خاضعة فقط للعبة السوق، بل لتوازنات أوسع تعيد تشكيل التحالفات.

مستقبل المفاوضات… في مهب النيران

التصعيد الأخير جاء في توقيت حساس، قبيل انعقاد الجولة السادسة من المفاوضات الأميركية–الإيرانية في سلطنة عُمان. التصعيد العسكري يُضعف موقع التفاوض، ويعزز مناخ عدم اليقين، وهو مناخ لا يُحبذه المستثمرون ولا أسواق المال.

عودة دونالد ترامب إلى الواجهة السياسية في واشنطن، مع تصريحاته المتحفظة حول جدوى التفاوض، تضيف بُعدًا من التعقيد إلى المعادلة، ما يعني أن التهدئة لن تكون قريبة، وأن الضغوط الاقتصادية ستستمر في التصاعد.

الاقتصاد العالمي أمام معادلة جديدة

في النهاية، لا تقتصر آثار هذا التصعيد على الشرق الأوسط، بل تطال السلع الأساسية، وسلاسل التوريد، وتكلفة النقل، وأسعار الغذاء والوقود، وحتى أدوات الدين السيادي في الاقتصادات الناشئة.

المواطن في فرانكفورت أو بكين أو نيويورك قد لا يعرف موقع “بارس الجنوبي”، لكنه سيتأثر مباشرة بأي اضطراب فيه، سواء في فاتورة الكهرباء، أو تكلفة النقل، أو تقلبات البورصات.

عندما يصبح الغاز سلاحًا… والنار سوقًا

ما نشهده اليوم ليس مجرد قصف منشأة، بل بداية لحقبة جديدة تُستخدم فيها أدوات الاقتصاد بفعالية عسكرية، ويُعاد فيها رسم العلاقات بناءً على من يملك مصادر الطاقة، ومن يستطيع حمايتها.

هل نحن أمام ولادة نظام اقتصادي عالمي جديد؟ السؤال لم يعد نظريًا. فالأسواق تجيب عمليًا، بالأرقام، وبالحذر، وبالتحوّط.

وفي هذه اللحظة، تبدو الجغرافيا الطاقية الشرق أوسطية، مرة أخرى، حجر الزاوية في مستقبل الاقتصاد العالمي.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *