غير مصنف

الاقتصاد الأميركي بين مطرقة الرسوم وسندان سلاسل التوريد

في خضم تحولات غير مسبوقة، يجد الاقتصاد الأميركي نفسه اليوم على حافة أزمة قد تعصف بمكتسبات سنوات طويلة من النمو، نتيجة قرارات تجارية اتخذتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث فرضت رسوماً جمركية غير مسبوقة على الصين بلغت 145%، لتدفع واحدة من أكبر العلاقات الاقتصادية في العالم نحو المجهول.

اليوم، تترقب الأسواق والمستثمرون على حد سواء تداعيات هذه الرسوم، وسط دلائل متزايدة على بداية صدمة في العرض، تذكرنا بأيام الجائحة القاسية. فبينما كانت المخاوف قبل أسابيع مجرد توقعات وتحليلات، باتت الآن أرقاماً واقعية وأزمات تلوح في الأفق، مع بدء انخفاض شحنات البضائع القادمة من الصين بنسبة تصل إلى 60% بحسب تقديرات أولية.

المخزون يذوب… والرفوف تفرغ

التقرير الذي نشرته شبكة “بلومبيرغ” أشار بوضوح إلى أن تأثير الأزمة لم يظهر بشكل كامل بعد لدى المستهلك الأميركي العادي. غير أن الصورة ستتغير جذرياً مع دخول شهر مايو، حيث تعاني آلاف الشركات الكبرى والصغرى من استنزاف مخزوناتها بوتيرة مقلقة. كبرى شركات التجزئة مثل “وول مارت” و”تارغت” حذرت من رفوف فارغة قريبة وأسعار أعلى بكثير مما اعتاد عليه المستهلكون.

ويؤكد تورستن سلوك، كبير الاقتصاديين في “أبولو مانجمنت”، أن النقص في السلع سيكون مشابهاً لما شهدناه خلال جائحة كوفيد-19، مع موجات تسريح محتملة للعمال في قطاعات النقل والخدمات اللوجستية والتوزيع. أزمة يبدو أنها تتفاقم بوتيرة أسرع مما توقعه أكثر المتشائمين.

قطاع التجزئة تحت الضغط

تأتي هذه الأزمة في توقيت حساس للغاية، حيث تبدأ الشركات في الولايات المتحدة عادة برفع مخزونها لتلبية طلب العودة للمدارس والموسم الطويل لعطلات نهاية العام. الرئيس التنفيذي لشركة “بسك فن”، جاي فورمان، عبر عن حالة الشلل التي أصابت السوق قائلاً: “نحن معلقون. الرسوم الجمركية تشل حركتنا وكأنها حظر فعلي”.

شركات أميركية عديدة تستورد النسبة الكبرى من منتجاتها من الصين، مثل شركة “جيرسونز” العريقة، وجدت نفسها في مأزق خطير مع تراكم مئات الحاويات في الموانئ الآسيوية دون حراك. التوترات التجارية ألقت بثقلها أيضاً على قطاع الشحن العالمي، حيث خُفضت الطاقة الاستيعابية للموانئ، ما ينذر باختناقات مرورية وزيادة قياسية في أسعار الشحن خلال الأسابيع القادمة، وهو سيناريو يعيد إلى الأذهان الفوضى اللوجستية خلال أسوأ أيام الجائحة.

انكماش تجاري عالمي في الأفق

الأزمة لا تقتصر على الداخل الأميركي فحسب. بيانات تتبع السفن أظهرت انخفاضاً بنسبة 40% في عدد السفن المتجهة من الصين إلى الولايات المتحدة منذ أبريل، مع تراجع حاد في حجم الحاويات المحملة. منظمة التجارة العالمية حذرت من احتمال هبوط حجم التبادل التجاري بين القوتين الاقتصاديتين بنسبة قد تصل إلى 80% إذا استمرت هذه الإجراءات التصعيدية.

هذا الانكماش التجاري يترافق مع إلغاء متزايد لرحلات الشحن البحري وإعادة توجيه الطلبيات نحو دول جنوب شرق آسيا مثل فيتنام وتايلاند وكمبوديا، ما ينذر بإعادة رسم خارطة سلاسل الإمداد العالمية بشكل قد يستغرق سنوات.

تحذيرات من أزمة ائتمان

الأكثر خطورة هو احتمال أن تتحول صدمة العرض الحالية إلى أزمة ائتمان حقيقية. ستيفن بليتز، كبير اقتصاديي “تي إس لومبارد”، حذر في مذكرة بحثية من أن الشركات المثقلة بالديون قد تجد نفسها في مهب الريح إذا اضطرّت للعمل بهوامش ربح متآكلة بسبب ارتفاع التكاليف الجمركية. أزمة كهذه قد تنتقل من سلاسل الإمداد إلى القطاع المصرفي، لتفتح الباب أمام ركود اقتصادي واسع النطاق.

سياسات قصيرة النظر… بثمن باهظ

السياسات التجارية لإدارة ترامب، القائمة على مفهوم الرسوم المتبادلة، جاءت مدفوعة بقناعة مفادها أن العجز التجاري الأميركي هو عنوان الضعف الاقتصادي. لكن ما تغفله هذه الرؤية السطحية أن الاقتصاد الأميركي يتمتع بأصول غير ملموسة هائلة، مثل الابتكار والتكنولوجيا ورأس المال الفكري، وهي التي تولد تدفقات مالية ضخمة إلى الداخل الأميركي.

فبين عامي 2000 و2024، بلغ العجز التراكمي في الحساب الجاري الأميركي نحو 14.4 تريليون دولار، ومع ذلك بقي صافي الدخل المالي الناتج عن الاستثمارات الأميركية في الخارج قوياً، بل وحقق أرباحاً صافية تجاوزت 632 مليار دولار في 2024 وحدها. هذه المعادلة غير المرئية تفسر قدرة الاقتصاد الأميركي على تحمل مستويات عالية من الاستيراد دون أن يتداعى كما يحلو للبعض تصويره.

رسوم جمركية… وضرر مزدوج

بعيداً عن حماية المصانع الأميركية كما وعد ترامب، يبدو أن الرسوم الجمركية جاءت بنتائج معاكسة: ارتفاع تكاليف الإنتاج، وتراجع تنافسية الشركات الأميركية في الأسواق العالمية، وإرهاق المستهلك بارتفاع الأسعار. من صناعة السيارات إلى قطاع الإلكترونيات إلى الألعاب، تدفع كل الصناعات اليوم فاتورة السياسات الحمائية المفرطة.

وفي حين أن بعض الدول المنافسة للولايات المتحدة سارعت إلى ملء الفراغ الذي تركته الصين، إلا أن البنية التحتية اللوجستية العالمية لم تُصمم للتعامل مع تقلبات ضخمة بهذا الحجم، مما يعني أن أي انفراجة لاحقة في العلاقات التجارية قد تأتي مصحوبة باختناقات وتعقيدات إضافية.

مستقبل الاقتصاد الأميركي… في مهب الريح

إذا استمرت هذه الحرب التجارية لأسابيع إضافية فقط، كما تشير تقديرات “بلومبيرغ”، فإننا سنشهد تسارعاً في إلغاء الطلبيات، ارتفاعاً هائلاً في الأسعار، وزيادة الضغط على المستهلك الأميركي الذي يعاني بالفعل من تراجع حاد في مستويات الثقة.

الموردون سيجدون أنفسهم مضطرين لتقديم تنازلات مؤلمة، سواء بخفض الأسعار أو تقليص العمالة أو قبول ديون مكلفة لمواصلة العمل. كل ذلك ينذر بتباطؤ اقتصادي مؤكد، وربما ركود إذا ما استمرت السياسات التجارية غير المدروسة في فرض مزيد من العقبات على التدفقات التجارية العالمية.

الخاتمة: الحاجة لفهم أعمق وشامل

إن رؤية الاقتصاد الأميركي عبر عدسة العجز التجاري وحده هو اختزال خطير ومضلل. ما يحتاجه صانع القرار اليوم هو فهم أعمق لطبيعة الاقتصاد المعولم، حيث الابتكار والمعرفة ورأس المال البشري هي محركات النمو الحقيقية.

في عالم تحكمه شبكات معقدة من التوريد والعلاقات المتشابكة، لا مكان للحمائية الفجة والسياسات العدوانية قصيرة النظر. المطلوب ليس فقط إصلاح العلاقات مع الصين، بل إعادة بناء الثقة بالنظام التجاري العالمي الذي لطالما شكل العمود الفقري لازدهار الاقتصاد الأميركي.

إن المستقبل، بكل تحدياته، يحتاج إلى عقول منفتحة وأفكار جريئة… وليس إلى المزيد من الجدران التجارية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *