غير مصنف

رياح معاكسة تهب على الاقتصاد العالمي

بينما كنا نُمنّي النفس بأن يظل قطار التجارة العالمية يسير بثبات على سكة التعافي، جاءت تحذيرات منظمة التجارة العالمية، لتضع خطوطًا حمراء تحت واقع أكثر قتامة مما توقعه المحللون مطلع هذا العام. تقرير المنظمة الأخير أطلق ناقوس الخطر، مؤكدًا أن مسار التجارة الدولية قد دخل مرحلة اضطراب حاد، تحت ضغط قرارات جمركية متقلبة وتزايد الضبابية السياسية التي تلقي بظلالها الكثيفة على مستقبل الاقتصاد العالمي.

الواقع الجديد فرضته سلسلة من الرسوم الجمركية التي أطلق شرارتها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في خطوة باغتت الأسواق وأربكت حسابات الشركاء التجاريين، لتعيد إلى الأذهان حقبة السياسات الحمائية التي ظن كثيرون أن العالم قد تجاوزها. وبحسب تقديرات المنظمة، فإن هذه الأعباء الجمركية مرشحة لتكبح نمو تجارة السلع العالمية، مع توقعات بانكماش يصل إلى 0.2% خلال 2025، رغم أن هذا الرقم يبدو أكثر تفاؤلاً مما توحي به المؤشرات الراهنة.

أميركا الشمالية ستتلقى النصيب الأكبر من وطأة هذا التراجع، حيث يُرتقب أن تهبط صادراتها بنسبة غير مسبوقة تلامس 12.6% خلال العام الجاري، ما يعكس هشاشة المشهد التجاري في المنطقة تحت وطأة النزاعات الجمركية العابرة للقارات.

وتحذر المنظمة من سيناريو أكثر قتامة قد يتحقق إذا ما انتقلت المعركة التجارية من مرحلة “التصعيد المؤقت” إلى صدام شامل، خاصة في حال تفعيل الرسوم الجمركية الانتقامية المتبادلة التي لا تزال معلقة على طاولة واشنطن. هذا السيناريو وحده كفيل بخفض مستوى التبادل التجاري العالمي بنسبة إضافية تصل إلى 1.5%، ما يعني خسائر موجعة خاصةً للدول النامية التي تعتمد صادراتها على الأسواق الكبرى.

العام الماضي كان قد شهد إشارات على استعادة التجارة لعافيتها بعد سنوات من التباطؤ، حيث سجلت تجارة السلع نمواً بلغ 2.9%، بينما ارتفعت حركة تجارة الخدمات بنحو 6.8%، وفقاً لبيانات المنظمة، لكن هذه الأرقام سرعان ما تحولت من مؤشرات أمل إلى مجرد ذكريات في مواجهة الحروب الجمركية الجديدة.

التحولات الأخيرة على خريطة التجارة لا تقتصر على الأرقام فقط، بل تمهد لإعادة تشكيل معادلات القوة والنفوذ في الأسواق. الصين، رغم كونها في قلب العاصفة، قد تجد في هذه الأزمة فرصة سانحة لإعادة توجيه صادراتها بعيدًا عن الولايات المتحدة، مما يهدد بإعادة توزيع الكعكة التجارية على أسس جديدة، يكون الخاسر الأكبر فيها الدول غير المستعدة لهذا التغيير.

وفي المقابل، تضع هذه المستجدات بعض الاقتصادات النامية أمام فرصة ذهبية لملء الفراغ الذي ستخلفه البضائع الصينية في الأسواق الأميركية، خصوصاً في قطاعات المنسوجات والتجهيزات الكهربائية. إلا أن هذه الفرصة تظل مشروطة بقدرة هذه الدول على رفع تنافسيتها وتحسين جودة صادراتها.

المشهد اليوم يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن النظام التجاري العالمي، الذي طالما شكل عصب الاستقرار الاقتصادي، يواجه واحدة من أعقد مراحله منذ عقود، حيث تزداد المخاطر مع كل قرار أحادي يفتقر إلى التنسيق الدولي.

ولعل الدرس الأهم الذي يستخلصه المراقبون من هذه التطورات هو أن زمن العولمة غير المنضبطة قد ولى، وأن الأسواق باتت أكثر هشاشة أمام قرارات سياسية آنية، بينما تظل الدول النامية ـ كعادتها ـ الأكثر عرضة للارتدادات.

في أعدادنا القادمة، سنواصل متابعة هذه التداعيات ورصد تحركات الأسواق وصنّاع القرار، في محاولة للإجابة على سؤال أصبح ملحاً: هل أصبح الاقتصاد العالمي رهينة المزاج السياسي؟ أم أن هناك فسحة من الأمل يمكن أن تنتشل التجارة الدولية من دوامة التباطؤ قبل فوات الأوان؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *