إنها ليست مجرد أرقام تُروى في نشرات الأخبار الاقتصادية؛ هي الإنذار الذي يدقّ جرس الخطر لواحد من أعمدة النظام المالي العالمي: الولايات المتحدة الأميركية. حينما نسمع أن الدين الوطني الأميركي تجاوز 37 تريليون دولار، وتفاصيل مفادها أن الإنفاق على فوائد هذا الدين بات يفوق إنفاق الدولة على الدفاع الوطني، يدرك المرء أن ما أمامنا ليس تحذيراً بل مفترق طرق يحدد مصير اقتصاد قوي… لكن القوي لا يُمنح البقاء إذا تجاهل مفترقاته. هذا المقال هو لمحة وفكرة وصرخة واجبة، لأنّ الاقتصادات لا تنهار في ليلة، بل في تراكم، وتجاهل، وتراخٍ.
ما الذي نعرفه؟ ما الوقائع التي لا تنكرها الأرقام؟
- وفق أحدث البيانات، الدين الأميركي وصل إلى نحو 37 تريليون دولار، متخطّياً سقوفاً وأرقاماً لم يكن يُتوقع بلوغها بهذه السرعة
- الإنفاق على فوائد الدين أصبح من أكبر أنواع الإنفاق الحكومي، متجاوزاً في كثير من الحالات الإنفاق على الدفاع، وعلى برامج كثيرة تُصنف “أساسية” في ميزانيات الدول. (
- التوقعات تشير إلى أن الدين سيستمر في النمو بوتيرة عالية، مدفوعاً بثلاثة محاور رئيسية: الإنفاق الإلزامي الكبير (كالضمان الاجتماعي والرعاية الصحية)، وكلفة الفوائد المرتفعة، ومن جهة أخرى، إيرادات لا تنمو بنفس الوتيرة المتسارعة، إما بسبب سياسات ضريبية مخففة، أو تباطؤ اقتصادي محتمل.
- نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي (GDP) باتت مصدر قلق، فبعض التقديرات تقول إن الدين المحتجز أمام الجمهور – وهو جزء مهم من العبء المالي – سوف يقارب نسبة تعادل أو حتى تفوق حجم الاقتصاد نفسه في السنوات القادمة إذا لم تُتخذ إجراءات إصلاحية فعالة.
لماذا هذا الأمر خطير؟ ما التبعات المحتملة؟
- تكلفة الفوائد تُلتهم المستقبل
عندما ترتفع فوائد الدين، تزداد الأعباء على الموازنة العامة. هذا يعني أن أموالاً يُفترض أن تُستخدَم في البُنى التحتية، التعليم، البحث، الأمن، تتوجه إلى خدمة الدين فقط. وكلما زادت نسبة الدين، زادت الحساسية لأي ارتفاع في أسعار الفائدة أو تدهور في سمعة الدولة المالية. - خنق الاستثمار الخاص
كلما استُنزفت القدرة المالية للدولة في خدمة الدين، قلّت قدرتها على الاستثمار في المشاريع التنموية. المستثمر الخاص، سواء داخل أميركا أو خارجه، يراقب المخاطر. إن ارتفاع الدين العام يُفضي إلى رفع عائدات السندات الحكومية، مما يجعل تكلفة الاقتراض للمواطن والشركات أعلى. هذا بدوره يبطّئ النمو الاقتصادي. - تفريغ السياسات الاجتماعية
عندما تتراجع الإمكانيات المالية، تنتقل الحكومات إلى تقليص الإنفاق على الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية والمساعدات للفئات الفقيرة والمتوسطة. هذا ليس مجرد ضغط مالي، بل خطر اجتماعي وسياسي، قد يُولّد اعتراضات كبيرة إن لم تُراعَ العدالة في توزيع الأعباء. - مخاطر تصنيف الائتمان
وكالات التصنيف العالمي لا تغفل عن الأرقام الكبيرة، خاصة إن ترافق الدين المتنامي مع عجز هيكلي مستمر. خفض التصنيف يعني ارتفاع تكلفة الاقتراض، ليس للدولة فحسب بل لكل من يستدين بالدولار أو من يعتمد على السندات الأميركية كملاذ آمن. ثقة المستثمرين تتزعز - الأثر على الدولار والاقتصاد العالمي
أميركا، قوة مالية ونقدية لا تُضاهى في العالم اليوم. استنزاف ثقتها أو خفض قدرتها على إدارة دينها قد ينعكس على سعر الدولار، رواج السندات الأميركية، وحتى على استقرار العملات الأخرى في الدول التي تحتفظ بالدولار أو السندات الأميركية في احتياطاتها.
كيف وصلنا إلى هذا المنعرج؟ فهم الجذور:
- الإغلاقات والتحفيزات المالية بسبب الجائحة
الحوافز الضخمة التي ضخَّتها الحكومات لتعويض الركود الاقتصادي الناتج عن جائحة كورونا، كانت ضرورية، لكنها وضعت علامات بداية دين كبير ومتسارع. - سياسات ضريبية ميسّرة وتخفيضات مستمرة
هناك توجهات سياسية في الولايات المتحدة إلى الحفاظ على تخفيضات ضريبية لبعض الفئات، أو تأجيلها، مما يقلل الإيرادات الحكومية في وقت الحاجة إلى موارد أكبر لتغطية الالتزامات المالية والعامة. - شيخوخة السكان وتكلفة الرعاية الصحية
كلما زادت نسبة كبار السن، زادت الأعباء في مجالات الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية. هذان البندان يشكلان جزءاً كبيراً من الإنفاق الإلزامي الذي لا يمكن تقليصه بسهولة. - ارتفاع معدلات الفائدة
لسنوات كانت الفائدة منخفضة، فبعض القرارات المالية استُندت إلى هذا الوضع. ولكن مع السياسة النقدية التي تشدّها الاحتياطي الفدرالي والرغبة في محاربة التضخم، ارتفعت الفائدة، وباتت تكلفة الاقتراض كبيرة جداً، سواء للحكومة أو للأطراف الخاصة. - الإنفاق السياسي والسياسي المؤقت
المشاريع الكبيرة وإنفاق الانتخابات وغيرها من السياسات التي تُسهم في زيادة العجز المالي، خصوصاً عندما الأدوات الضريبية لا تُعدّل بسرعة أو لا تُوفّر مصادر بديلة للتمويل.
ماذا لو استمرّ الوضع كما هو؟ السيناريوهات المتوقعة
- سيناريو الاستمرار بلا إصلاحات
سيكون العجز المالي أكبر، الفوائد تُلتهم الجزء الأعظم من الموازنة، ونسبة الدين إلى الناتج المحلي تتجاوز الحدود التي تعتبرها وكالات التصنيف “آمنة”. وقد تشهد أميركا تخفيضات في الفوائد، لكن مقابل ارتفاع المخاطر، وانخفاض الثقة. - سيناريو الركود أو الأزمات المالية
إذا ما تزامن ارتفاع الدين والأعباء مع ضعف اقتصادي أو صدمات خارجية (كسقوط في الأسواق العالمية، أو أزمة نقدية، أو انهيار في سوق العقارات مثلاً)، فإن قدرة الحكومة على التصرّف ستكون محدودة، وقد تُجبر على تقليصات جذرية، إما في الإنفاق أو في الخدمات الاجتماعية، أو رفع الضرائب. - سيناريو التضخم المفرط
إذا لجأت الحكومة إلى طباعة أموال لتمويل أجزاء من الدين أو لتخفيف الأعباء، قد تشهد البلاد ارتفاعاً في مستوى التضخم، ما يُضعف القدرة الشرائية للمواطن ويزيد الاستياء الاجتماعي. - سيناريو التراجع في هيبة الدولار
الدولار لا يزال العملة الاحتياطية الأولى في العالم، لكن إن فُقدت الثقة الأميركية – سواء بسبب دينٍ لا يُدار أو سياسات مالية غير شفافة – فقد يبدأ المستثمرون في التنويع بعيداً عنه، ما يُزوّد الدولار والاقتصاد الأميركي تأثراً أكبر بالعوامل الخارجية.
ما الذي ينبغي أن تفعله أميركا الآن؟ سياسات الإصلاح الممكنة
إصلاح مشكلة ديون عملاقة لا يحدث دفعة واحدة، بل عبر خطوات استراتيجية. إليك بعض المداخل التي أقترحها بشدة:
- موازنة الإنفاق مع الإيرادات
لا يكفي تقليص الإنفاق الحكومي فقط، بل يجب رفع الإيرادات أيضاً. تعديل النظام الضريبي بحيث يكون أكثر عدالة، مع البحث عن مصادر دخل جديدة للدولة، دون تحميل الأفراد الأغلبية عبءً غير عادل. - إصلاحات في الإنفاق الاجتماعي والصحي
مراجعة برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية للبحث في كفاءتها، خفض الهدر، وتحسين الكلفة دون تخفيض الجودة للمستحقين. - إعادة هيكلة الدين وفترات الاستحقاق
عند تجديد السندات الحكومية أو إصدار ديون جديدة، ينبغي الانتباه لآجال الاستحقاق ومعدلات الفائدة، ومحاولة توزيع الأعباء على زمن أطول لتجنّب صدمات الفائدة. - استثمار ذكي في النمو والتنمية
الأزمات لا تُحلّ من خلال التقلص فقط، بل من خلال الاستثمار في القطاعات التي تُعزز النمو: التكنولوجيا، التعليم، البنية التحتية، البحث العلمي والطاقة النظيفة. النمو الاقتصادي هو أفضل موازن لارتفاع الدين، لأنه يزيد الناتج المحلي الإجمالي ويُخفّف نسبة الدين إلى الناتج. - الشفافية والمساءلة
يجب أن يكون المواطن والمستثمر على علم بموازنة الدولة، بالعجز والإيرادات، وبخطط الحكومة المستقبلية لإدارة الدين. هذا يُعيد الثقة ويُشجّع على التعاون السياسي. - تنسيق سياسي حقيقي
الدين الأميركي ليس “مُشكلة طرف واحد”؛ يجب أن يكون هناك توافق عابر للأحزاب، لأنّ الاستمرارية في السياسات المالية – سواء كانت إنفاقاً أو ضرائب – تستلزم دعمًا سياسيًا مستدامًا لا تغيّرات مفاجئة تُربك الأسواق وتزيد من المخاطر.
هذا ليس وقت الهلع، بل وقت القرار
من موقع القوة تأتي المسؤولية. الولايات المتحدة اليوم تمتلك مذاهب اقتصادية كبيرة وقوى مؤسساتية ضخمة، لكنّ هذه القوى لا تُعوّض عن الخيارات المالية الخاطئة. الدين الوطني الذي يتراكم هو بمثابة سلاح ذو حدّين: يُمكِّن الدولة من تمويل استثمارات كبرى إذا أُدار بحكمة، أو يُدمّر الخيارات المستقبلية إذا تُرك بلا ضوابط.
وبالنسبة لنا، كمتابعين وكمهتمين – في الكويت، في الخليج، في العالم العربي والدولي – ما يحدث في أميركا ليس مجرد إحصاء. هو درس يُعلّمنا، مثال يُرينا كيف يمكن أن تتحول القوة إلى عبء إن لم تكن هناك رؤية واضحة واستدامة مالية.
إن العدد الخاص من هذه الجريدة الذي نعطيه للموضوع ليس احتفاءً بالأرقام، بل إنذاراً؛ وليس مجرد تحليل، بل نداء: إلى الحكومات، إلى صانع القرار، إلى المواطن. أن يُدرك أنّ الدين العام ليس مصيبة في حدّ ذاته، لكنه يصبح مصيبة حينما تُفقد السيطرة عليه، وحينما يُسيطر على الخيارات.
لنجعل الحكمة – لا الهلع – قائدة القرار. لنسعَ جميعاً إلى سياسات مالية لا تُظهر القوة اليوم فحسب، بل تبنيها مستدامة للغد. لأنّ الغد، مهما كان بعيداً، يبدأ بخطوة نأخذها الآن.
الاشتراك في خدمات شركة أمواج كابيتال
إذا كنت ترغب في الاستفادة من التقلبات الاقتصادية في الأسواق العالمية، يمكنك الآن
فتح حساب في شركة أمواج كابيتال من هنا.