غير مصنف

الرسوم الجمركية على سبائك الذهب الأميركية: ضربة لعمق السوق العالمية وتهديد لاستقرار المراكز التمويلية الكبرى

 

في مشهد اقتصادي عالمي ملتهب، تأتي رسالة تصنيف الجمارك الأميركية في نهاية يوليو 2025 لتزيد تعبعة التوتر التجاري والدولي. فقد قررت السلطات الأميركية أن سبائك الذهب بوزن كيلوغرام واحد و100 أونصة (بما يوازي حصاة ذهبية بحجم الهاتف الذكي تقريبًا) لم تعد كما كان يُعتقد معفاة من الرسوم الجمركية، بل صُنفت تحت رمز جديد خاضع لنسبة 39% من الرسوم، ما ينتظر أن يعيد تشكيل خارطة الاستيراد، ويصعّب عمل أكبر مراكز تكرير الذهب في العالم: سويسرا. في هذا العدد الخاص، نستعرض في السطور التالية كيف ولماذا، وكيف ستتغير قواعد اللعبة على مستوى سوق المعادن الثمينة العالمي.

خلفية عامة – الذهب بين التجارة والسياسة

  • في العقود الماضية، لعب الذهب دورًا استراتيجيًا في أسواق المال، ليس فقط كملاذ آمن أمام التضخم والاضطرابات، بل كأداة مالية تُداول بين المراكز الكبرى: لندن، نيويورك، وسويسرا.
  • لندن – مركز سبائك 400 أونصة (بحجم قالب الطوب) – تتعامل معها البورصات والبنوك الأوروبية والآسيوية.
  • نيويورك – تفضّل سبائك الكيلوغرام (حجم قريب من الهاتف الذكي) – لبرامج التمويل ومستثمري التجزئة.
  • بينما سويسرا تعمل كمحرقة — إعادة صهر وتجزئة – وتعيد تصدير الذهب إلى الأسواق العالمية، وتُشكّل حلقة الوصل التجارية المركزية.
  • السبب واضح: اختلاف أحجام السبائك يلبي احتياجات الأسواق المتباينة. لكن، مثل هذه القرارات الجمركية تغيّر دينامية هذه الرحلة الثلاثية الوجوه.

 

تفاصيل القرار الأميركي وأبعاده الفنية

  • بتاريخ 31 يوليو 2025، أصدرت هيئة الجمارك وحماية الحدود الأميركية (CBP) ما يُعرف بـ«رسالة تصنيف»، تُوضّح أن سبائك الكيلوغرام والـ100 أونصة يجب تصنيفها تحت الرمز الجمركي “7108.13.5500”. هذا الرمز يخضع للرسوم.
  • ولم تعد تطبّق الرسوم المعلنة سابقًا (39%) على هذه الفئات كما كانت التوقعات؛ بدلاً من ذلك، لم تعد معفاة كما قد تبرم البعض.
  • سبق أن كان الرمز “7108.12.10” يُفهم داخل القطاع على أنه يشمل هذه الأنواع من السبائك، وكان معفى. هذا التفسير السابق شكّل توافقًا ضمنيًا بين الجهات التجارية.
  • الرسالة استجابت لطلب توضيح رسمي من إحدى المصافي؛ وأغلب الظن أن هذا القرار يعبّر عن تشديد تنظيمي يواكب توجهات حماية الصناعة المحلية، أو لأسباب مالية ذاتية.
  • النتيجة المباشرة: تكاليف إضافية؛ تخوف لدى المزودين والشركات؛ اضطراب في سلاسل الإمداد.

أثر الرسوم على سويسرا – الاقتصاد والتصدير

  • سويسرا، رغم صغر حجمها، تُعد أضخم مركز لتكرير الذهب في العالم. في الـ12 شهرًا المنتهية في يونيو 2025، صدّرت سويسرا ذهبًا بقيمة تقارب 61.5 مليار دولار إلى الولايات المتحدة.
  • عند فرض رسوم 39%، يعني هذا تحميل صادرات بقيمة 24 مليار دولار تقريبًا برسوم مباشرة – وهو مبلغ ضخم قد يهزّ ميزان أرباح الصناعات الصافية.
  • رئيس رابطة مصنّعي وتجار المعادن النفيسة السويسرية وصف القرار بأنه “ضربة أخرى” للتجارة السويسرية– الأميركية، خاصة وأن العلاقة بين البلدين تدهورت مؤخرًا بعد فرض الرسوم على واردات سويسرا.
  • نتيجة لذلك، أبلغت مصفّات ذهب محلية أنها عملت لأسابيع وربما أشهر مع محامين لتفكيك الرموز الجمركية بدقة، بل إن بعضها خفّض أو أوقف الشحن بعيدًا عن حالة عدم اليقين.
  • هذا القرار قد يعيد تشكيل المشهد: ثمة احتمال أن تتجه بعض العمليات نحو مواقع تكرير بديلة، أو أن تشهد الأسواق تقلبات في أسعار الذهب الفوري وسعر السبائك الكبيرة.

 

انعكاسات على أسواق الذهب العالمية

  • بورصة COMEX – أكثر أسواق العقود الآجلة في العالم لتجارة الذهب – تشهد منذ بداية العام ارتفاعًا قياسيًا في سعر الذهب (بنسبة تقارب 27% من نهاية 2024)، مسافة طويلة كادت تلامس 3,500 دولار للأونصة.
  • الغضّاط: تضخم عالي، ديون حكومية متصاعدة، وضعف الدولار كعملة احتياط، كل هذه عوامل أدت إلى ارتفاع الطلب على الذهب.
  • تكامل هذه السياقات مع الرسوم الجمركية الجديدة يعني أن الأسواق ستعرض أوضاعًا أكثر تقلبًا:
    • زيادة في تكلفة الاستيراد إلى الولايات المتحدة – مما قد يرفع الأسعار على المستثمرين الأميركيين.
    • اضطرابات محتملة في الإمداد داخل لندن ونيويورك – بسبب توقف بعض الشحنات السويسرية.
    • اختلال في التوازن بين العرض والطلب على السبائك الكبيرة.
  • تجدر الإشارة إلى أن تجّاراً أسرعوا سابقًا إلى إدخال الذهب إلى السوق الأميركية قبيل ما سُمي بـ”يوم التحرير” – ما سبب تراكمًا قياسيًا لمخزونات COMEX ونقصًا مؤقتًا في لندن.
  • التأثير الآن أقوى وربما أوسع، لأن التعرفة واضحة وليست مجرد تخمين أو احتمال. هذا الأمر سيخلق ديناميكية جديدة لتداول الذهب، تنطوي على تجاوزات لوجستية وتعاقدات قانونية أكثر تعقيدًا.

 تحليلات وتوصيات كبرى

التوصية الأولى: إعادة النظر في سلاسل التوريد

المصفّات الكبرى – خاصة في سويسرا – يجب أن تُجدد اتفاقيات تصديرها، وربما تُوسع شبكاتها إلى مصافي في دول أخرى (مثل الإمارات، تايلاند، وغيرها) لتخفيف التعرض للتعرفة الأميركية.

التوصية الثانية: تعزيز الشفافية الجمركية

الصناعة بحاجة إلى وضوح في تصنيف البضائع، وتعاون مع الجهات الأميركية لتعديل الرموز، أو التقديم بطلبات إعفاء رسمية، أو استحداث رموز جديدة أكثر دقة.

التوصية الثالثة: التأقلم مع تقلبات الأسعار

التجار والمستثمرون في الولايات المتحدة وخارجها يجب أن يعيدوا حساباتهم السعرية، بما يشمل التكاليف الجمركية والمدة الزمنية للتوصيل، واستخدام عقود تحوطية للتخفيف من الصدمات السعرية.

التوصية الرابعة: إعادة النظر في موقع التمويل واللوجستيات

يمكن أن يُعاد توزيع عمل عمليات التكرير والتجهيز والتغليف إلى مواقع تكون أقل تأثرًا بالرسوم، وتكون أقرب للأسواق الأصلية أو البديلة.

التوصية الخامسة: دعم الحوار السياسي والاقتصادي

لا بد أن تتواصل الصناعة مع صنّاع القرار من الطرفَين (سويسراً والولايات المتحدة) لفتح قنوات للحوار، وتوضيح أهمية التجارة المتوازنة في المعادن الثمينة، وتأثير الرسوم على الأمن الاقتصادي العالمي.

خاتمة

في مجتمع عالمي حيث كل عامل، مهما كان شكله صغيرًا، يمكن أن يُحدث فرقًا، فإن قرار الهيئة الأميركية بفرض رسوم جمركية على سبائك الذهب بوزن كيلوغرام و100 أونصة يأتي ليبدّد توهّمات الاستقرار التي اعتدنا عليها. هو قرار لا يطال سلعة فاخرة فحسب، بل يطغى على بنية سوق عالمي بالكامل.

رسالة تصنيف 31 يوليو 2025 ليست مجرد مستند إداري – إنها إشارة واضحة للتوترات المتنامية بين الحماية الصناعية من جهة، وحرية التجارة من جهة أخرى. ولكي نجتاز هذه المرحلة، لا بد أن يكون لنا عصا الحكمة: عقل صناعة منفتح، تعاون تجاري، وحنكة دبلوماسية اقتصادية.

في صحيفة اليوم، نخصص هذا العدد الخاص لقراءة ما وراء الذهب: قراءة لسياسات، ولأنظمة، ولقلوب المؤسسات، ولخطى الأسواق. والأهم، هو تأمّل المستقبل العسكري والتجاري – وليس في الذهب فقط، بل في ثقل قرارات صنع القرار الغربي وتأثيراتها على الشراكات العالمية. والله ولي التوفيق، وسيبقى قلمنا صادقاً ما دام السوق يُراقص خطواته الذهبية بين الجمارك والسياسات.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *