غير مصنف

الذهب الأميركي.. ثروة القرن ومفتاح معركة الاقتصاد العالمي

في لحظة فارقة من التاريخ الاقتصادي، يقف العالم مشدوها أمام قفزات الذهب القياسية التي قلبت الموازين وأعادت المعدن الأصفر إلى صدارة المشهد المالي والسياسي. لم يعد الذهب مجرد أصل تقليدي أو ملاذ آمن في أوقات الأزمات، بل بات اليوم ورقة ضغط استراتيجية، ومؤشرا على تحولات عميقة في بنية الاقتصاد العالمي، وسط صراعات جيوسياسية محتدمة وأزمات مالية متفاقمة.

لقد تجاوزت أسعار الذهب حاجزا لم يشهده العالم من قبل، لتلامس مستويات تقارب 3900 دولار للأونصة، في ارتفاع غير مسبوق منذ عقود. هذا الارتفاع الاستثنائي لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة مباشرة لعوامل متشابكة: من المخاوف المتنامية بشأن الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة، إلى السياسات النقدية لمجلس الاحتياطي الفدرالي، وصولا إلى تدفق رؤوس الأموال الباحثة عن ملاذ آمن وسط العواصف التجارية والسياسية التي تضرب القارات.

احتياطات أميركا الذهبية: كنز في قلب النقاش

تمتلك الولايات المتحدة أكبر مخزون رسمي من الذهب في العالم، يناهز 261.5 مليون أونصة، موزعة بين فورت نوكس الشهيرة بولاية كنتاكي، ومستودعات وست بوينت ودنفر، إضافة إلى قبو ضخم تحت مقر الاحتياطي الفدرالي في مانهاتن. وإذا ما تم احتساب هذه الكميات وفق الأسعار الحالية، فإن القيمة الإجمالية تتجاوز تريليون دولار، مقارنة بالقيمة الرسمية المثبتة منذ سبعينيات القرن الماضي عند 11 مليار دولار فقط، وفق السعر القانوني البالغ 42.22 دولارا للأونصة.

هنا يكمن التناقض المثير: ثروة هائلة تكمن في خزائن الدولة الأميركية، لكن قيمتها الدفترية ما زالت حبيسة أرقام متقادمة. هذا الفارق، الذي يتجاوز 990 مليار دولار، يثير شهية بعض الأصوات الداعية إلى إعادة تقييم الأصول الرسمية لتخفيف أعباء الدين العام ومواجهة قيود سقف الاقتراض الحكومي. غير أن مثل هذا القرار، رغم إغرائه السياسي والمالي، قد يحمل تداعيات معقدة على النظام النقدي برمته.

لماذا يقفز الذهب بهذه القوة؟

الجواب يكمن في مزيج من العوامل:

  • الاضطرابات الجيوسياسية: الحروب التجارية بين القوى الكبرى، وملفات الشرق الأوسط وأوكرانيا وآسيا، كلها تغذي الطلب على الذهب كملاذ استراتيجي.
  • المخاوف المالية الأميركية: شبح الإغلاق الحكومي، والجدل حول سقف الدين، وعدم اليقين بشأن الإنفاق الفدرالي.
  • السياسات النقدية التيسيرية: عودة الاحتياطي الفدرالي إلى تخفيض أسعار الفائدة تدفع المستثمرين إلى التحول نحو الأصول الحقيقية، وعلى رأسها الذهب.
  • التدفقات الاستثمارية الضخمة: الصناديق المتداولة المدعومة بالذهب تستقطب سيولة غير مسبوقة من الأفراد والمؤسسات.

أثر الذهب على معادلة القوى الاقتصادية

الارتفاع التاريخي في أسعار الذهب لا يقتصر أثره على الأسواق المالية، بل يمتد ليعيد رسم معادلات القوة بين الدول. فالذهب، بخلاف العملات الورقية، لا يخضع لقرارات البنوك المركزية ولا يمكن طباعته أو خلقه من العدم. وهو ما يجعله ذخيرة استراتيجية في لحظات الأزمات العالمية.

تاريخيا، شكل الذهب العمود الفقري لنظام بريتون وودز الذي انهار مطلع السبعينيات. ومنذ ذلك الحين، ظل دوره يتأرجح بين التراجع والصعود. أما اليوم، ومع تصاعد التوترات الاقتصادية والسياسية، يعود الذهب ليحتل مكانة جديدة كمعيار غير رسمي لقياس الثقة بالاقتصادات الكبرى.

تداعيات على السياسة الأميركية

بالنسبة للولايات المتحدة، فإن هذا الارتفاع الهائل يضع صانعي القرار أمام معضلة. من جهة، يمكن إعادة تقييم الاحتياطات الذهبية لتوفير سيولة ضخمة قد تسهم في معالجة أزمة الدين العام. ومن جهة أخرى، قد يؤدي ذلك إلى تضخم السيولة وتفاقم الضغوط على النظام النقدي، في وقت يحاول الاحتياطي الفدرالي تقليص ميزانيته العمومية لمكافحة التضخم.

الأكثر من ذلك، أن الجدل حول وجود الذهب فعلا في فورت نوكس لم يخمد تماما. تصريحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والملياردير إيلون ماسك، غذّت الشكوك بشأن مدى شفافية إدارة هذا الكنز. وبينما تؤكد الخزانة الأميركية امتلاكها لهذه الكميات، تبقى الدعوات لإجراء مراجعات علنية أو تدقيقات مستقلة حاضرة بقوة في الخطاب العام.

الذهب كسلاح استراتيجي

لم يعد الذهب مجرد أصل مالي محايد. بل تحوّل إلى سلاح في معركة النفوذ الاقتصادي بين القوى الكبرى. الصين وروسيا، على سبيل المثال، كثفتا مشترياتهما من الذهب خلال الأعوام الأخيرة في محاولة لتقليص الاعتماد على الدولار. أما الدول الأوروبية الكبرى، مثل ألمانيا وإيطاليا، فقد أعادت تقييم احتياطاتها في السابق لإضفاء مزيد من المرونة على سياساتها النقدية.

في هذا السياق، فإن استمرار الولايات المتحدة في الاحتفاظ بهذا الكنز، مع إمكانية إعادة تقييمه مستقبلا، يمنحها ورقة تفاوضية قوية في الساحة الدولية. لكنه في الوقت نفسه قد يضعها في مرمى الانتقادات، خاصة في ظل اتهامات بعض الدول بأن واشنطن تستغل تفوقها المالي لمراكمة نفوذ سياسي لا محدود.

 إلى أين يتجه الذهب؟

المحللون يرون أن تجاوز الذهب عتبة 4000 دولار للأونصة أصبح مسألة وقت، في ظل استمرار العوامل الضاغطة نفسها: الفائدة المنخفضة، تصاعد المخاطر السياسية، وتنامي الطلب الاستثماري. لكن السؤال الأهم: هل يمكن أن نرى عودة فعلية إلى نظام نقدي مدعوم بالذهب؟

رغم أن الاحتمال يبدو بعيد المنال حاليا، إلا أن بعض الأصوات في الأسواق والدوائر الأكاديمية بدأت تطرح الفكرة مجددا، خاصة في ظل فقدان الثقة بالعملات الورقية بعد موجات التيسير الكمي المتواصلة منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008. مثل هذا التحول، إن حدث، سيكون بمثابة زلزال اقتصادي يعيد تشكيل النظام المالي العالمي من جديد.

الذهب يعود ملكا

في افتتاحية هذا العدد الخاص، نؤكد أن ما يشهده الذهب اليوم ليس مجرد صعود سعري عابر، بل هو مؤشر على تحولات استراتيجية أعمق. إن المعدن الأصفر يعود إلى الواجهة كملك غير متوج للنظام المالي العالمي، ومفتاح لفهم الصراعات الاقتصادية المقبلة.

الولايات المتحدة، بما تملكه من احتياطات ضخمة، تقف في قلب هذه المعادلة، بين إغراءات إعادة التقييم ومخاطر ضخ السيولة. أما بقية دول العالم، فتتابع بترقب حذر، مدركة أن مستقبل النظام النقدي لن يُكتب بالدولار وحده، بل بالذهب الذي يعود اليوم ليعلن نفسه مجددا حكما بين العملات والسياسات.

الاشتراك في خدمات شركة أمواج كابيتال

إذا كنت ترغب في الاستفادة من التقلبات الاقتصادية في الأسواق العالمية، يمكنك الآن
فتح حساب في شركة أمواج كابيتال من هنا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *