في زمنٍ تغلي فيه الجغرافيا السياسية، وتُعاد فيه كتابة قواعد الاقتصاد بمداد الخوف والطموح والشك، يأتي دونالد ترمب – الرئيس الأميركي الأسبق والمرشح الرئاسي الحالي – ليقذف حجرًا جديدًا في بحيرة التجارة الدولية الراكدة. لكن هذه المرة، الحجر أكبر، والموجات أكثر اتساعًا، والصدى قد يُعيد رسم خريطة النظام الاقتصادي العالمي من جذوره.
صباح الاثنين 7 يوليو 2025، أعلن ترمب عبر منصته “تروث سوشيال” عن فرض رسوم جمركية شاملة على واردات من أكثر من 14 دولة، من بينها حلفاء تقليديون للولايات المتحدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية. ما كان يبدو في السابق تكتيكًا انتخابيًا أو مناورة تفاوضية، يبدو اليوم كخطة مدروسة، هدفها النهائي إعادة هندسة الاقتصاد العالمي على أسس قومية أميركية خالصة.
من التغريدة إلى التشريع – ترمب يكتب سياسة بمداد المفاجأة
منصة “تروث سوشيال” لم تعد مجرد وسيلة اتصال جماهيري بالنسبة لترمب، بل أصبحت أداة تشريع فعلية. ففي إعلان علني خالٍ من الدبلوماسية، خاطب قادة اليابان وكوريا الجنوبية مهددًا برد تصعيدي على أي رد فعل مضاد.
“إذا قررتم الرد برفع الرسوم… فسوف نضيف النسبة التي اخترتموها إلى رسومنا الحالية”، هكذا كتب ترمب، وكأن السياسات التجارية تُدار بعقلية البائع الشرس لا برؤية الدول الكبرى.
الرسالة كانت واضحة: لا تفاوض قبل الخضوع، ولا خريطة اقتصادية إلا بتوقيع البيت الأبيض.
الحلفاء في دائرة الاستهداف – تفكيك التوازن الآسيوي
استهداف اليابان وكوريا الجنوبية لم يكن وليد الصدفة، بل يكشف عن منهجية جديدة: لا فرق بين الحليف والخصم إذا ما كان الميزان التجاري يميل ضد أميركا.
بلغ العجز التجاري الأميركي مع اليابان 69.4 مليار دولار في عام 2024، و66 مليارًا مع كوريا. بالنسبة لترمب، هذه الأرقام لا تُقرأ بلغة الاقتصاد التقليدي، بل تُفسّر كدليل على “خداع اقتصادي”، يُبيح الرد بعقوبات جمركية مهما كان الثمن الجيوسياسي.
ولكن ماذا يعني ذلك فعليًا؟ يعني أن القواعد تغيرت. وأن عصر الحماية الاقتصادية على حساب التحالفات قد بدأ.
بالأرقام – خريطة الرسوم الجمركية الجديدة
بدءًا من 1 أغسطس 2025، ستفرض الولايات المتحدة الرسوم التالية:
| الدولة | نسبة الرسوم |
| اليابان، كوريا الجنوبية | 25% |
| كمبوديا، تايلاند | 36% |
| ميانمار، لاوس | 40% |
| صربيا، بنغلاديش | 35% |
| جنوب أفريقيا، البوسنة | 30% |
| كازاخستان، ماليزيا، تونس | 25% |
الرسائل الرسمية المرافقة، والمليئة بالأخطاء البروتوكولية (منها مخاطبة رئيسة البوسنة بـ”السيد الرئيس”)، تُؤشر على نهج غير مؤسسي في صناعة القرار. الرسالة الأقوى هي: لا قواعد ثابتة بعد اليوم.
الأسواق تتوجس… والاقتصاد الأميركي يرتجف
رغم ما يدعيه ترمب من أن “الرسوم ستمول التخفيضات الضريبية للأميركيين”، فإن المؤشرات الاقتصادية تقول عكس ذلك:
- تراجع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 0.8% فور الإعلان.
- ارتفع العائد على سندات الخزانة لعشر سنوات إلى 4.39%.
- ازدياد متوقع في تكاليف التمويل العقاري والاستهلاكي.
- تراجع الثقة في قرارات الإدارة الاقتصادية، خاصة بعد استبعاد الكونغرس من المعادلة.
أضف إلى ذلك أن الأسعار ستبدأ بالارتفاع خلال أسابيع. ففي الاقتصاد، كل تكلفة جديدة على المورد الأجنبي تُحوّل حتمًا إلى المستهلك المحلي.
الصين تردّ بأسلوبها – خنق المعادن النادرة
في ساحة التجارة، لا تُشهر الصين سيوفها علنًا. بل تفضل سلاحًا أكثر فتكًا: المعادن النادرة.
خلال مايو 2025، فرضت بكين قيودًا جديدة على تصدير عناصر مثل التيربيوم، الجادولينيوم، السماريوم، وهي معادن تُستخدم في كل شيء: من الشرائح الإلكترونية إلى أنظمة الدفاع المتقدمة.
النتيجة؟ ارتفاع الأسعار بنسبة تتراوح بين 15% و19%، وانهيار المؤشرات الصناعية في أوروبا وأميركا.
الصين، التي تُنتج 90% من هذه المعادن عالميًا، باتت تُمسك بمفتاح المستقبل التكنولوجي، بينما تُعيد واشنطن تموضعها في معركة غير متكافئة.
أوروبا المربكة – بين المطرقة الأميركية والسندان الصيني
بالنسبة للاتحاد الأوروبي، ما يحدث هو كابوس جيو-اقتصادي. لا يمكنه التخلي عن السوق الأميركية، ولا تجاهل اعتماد صناعته على المواد الخام الصينية.
المفارقة أن تحالفات “الغرب” باتت أقل صلابة من أي وقت مضى. الرسوم الأميركية تُشجع أوروبا على تسريع البحث عن سلاسل توريد بديلة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا. لكن هذه الاستراتيجية تحتاج سنوات، وليس شهورًا.
ألمانيا – رئة أوروبا الاقتصادية – تشعر بأنها تُستدرج إلى مأزق استراتيجي خطير: إما الخضوع لقواعد ترمب، أو المغامرة بفكّ الارتباط مع الحليف الأهم.
الاقتصاد الأميركي… في قلب الإعصار
ما يُقدّمه ترمب ليس مجرد حرب تجارية، بل خطة لإعادة صبّ النموذج الاقتصادي الأميركي في قالب جديد: أقل اعتمادًا على الخارج، وأكثر قومية، وأكثر عدائية.
لكن التكلفة المحلية قد تكون باهظة:
- ارتفاع الأسعار، وتآكل القوة الشرائية.
- اختناق سلاسل الإمداد في قطاعات التكنولوجيا، السيارات، الأدوية.
- تهديد الاستثمار الأجنبي المباشر، بسبب تقلبات السياسات.
- تآكل الثقة في دور الولايات المتحدة كقائدة للنظام الاقتصادي العالمي.
هل نحن أمام نسخة 2025 من حرب 2018؟
نعم، ولكن الفارق جوهري. في 2018، بدأ ترمب حربًا تجارية مع الصين برسوم بلغت 25%. اليوم، يفتح جبهة متعددة الأطراف، تشمل الحلفاء والأعداء في آنٍ معًا.
كما أن السياق الجيوسياسي اليوم أكثر تعقيدًا:
- عالم ما بعد الجائحة.
- حروب مفتوحة في أوكرانيا وغزة واحتمالات تصعيد في تايوان.
- انفلات التضخم.
- تصاعد القومية الاقتصادية في أكثر من بلد.
بمعنى آخر، حرب 2025 ليست استئنافًا لصراع قديم، بل بداية لتحول شامل في النظام العالمي.
ما بعد G7 وBRICS – نحو خريطة جديدة؟
استهداف ترمب لدول متحالفة مع “بريكس” يحمل رسالة خفية: من أنتم معنا؟ ومن أنتم ضدنا؟
العقوبات الإضافية (10%) التي تُهدد دول مثل إندونيسيا، تونس، جنوب أفريقيا، تُشير إلى توجه أميركي يعتبر “بريكس” مشروعًا معاديًا لا مجرد تكتل اقتصادي.
في المقابل، تعمل دول “بريكس+” على تطوير أدوات بديلة للنظام المالي الدولي، بما في ذلك مشاريع تسعير بديلة للنفط، ومنصات دفع رقمية جديدة.
قد نكون أمام بدايات نظام اقتصادي عالمي ثنائي القطب، على غرار الحرب الباردة… ولكن بطابع تجاري هذه المرة، لا عسكري فقط.
نظام يتهاوى أم يولد من جديد؟
ترمب لا يخوض فقط حملة رئاسية. بل يقود ثورة اقتصادية مضادة على النظام الليبرالي الذي حكم العالم منذ 1945.
سياساته لا تكتفي بإعادة تعريف التجارة، بل تُحاول فرض نموذج أميركي قومي، لا يعترف بالشراكات بل بالشروط، ولا يرى في السوق العالمية فرصة بل تهديدًا.
ومع أن هذا التوجه قد يُرضي شرائح واسعة من القاعدة الانتخابية الداخلية، إلا أنه في ذات الوقت:
- يُهدد بنية الاقتصاد العالمي.
- يفتح الباب أمام مزيد من الصدامات الجيوسياسية.
- يُسرّع فكّ الارتباط بين الشرق والغرب.
- ويُضعف قدرة الولايات المتحدة على بناء تحالفات لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.
في النهاية، نحن لا نشهد مفاوضات تجارية… بل لحظة ولادة نظام اقتصادي عالمي جديد. إما أن يُولد متماسكًا تحت قيادة أميركية صارمة، أو يتفكك إلى كتل متنازعة تُديرها شحنات الألمنيوم ومعادن الأرض النادرة، لا القيم والمصالح المشتركة.