غير مصنف

من قلب الأسواق إلى عقل القارئ: رحلة التجارة العالمية وصعود العرب بلا نفط

خلف الرقم: 33 تريليون لا تعني الازدهار وحده

في الظاهر، رقم التجارة العالمية في 2024 مثير للإعجاب: 33 تريليون دولار أمريكي. لكن خلف هذا البريق تختبئ تفاصيل معقّدة، بعضها مخيف.

ففي حين سجّلت الخدمات نموًا بـ 3.7٪، فإن التجارة بالبضائع الصناعية بدأت تشهد تباطؤًا في بعض المناطق، وازدهارًا ملفتًا في أخرى.

تخيّل قاعة ضخمة في جنيف، حيث يجتمع خبراء الأونكتاد ويقلبون أوراقًا تُشبه الألغاز السياسية أكثر من كونها جداول اقتصادية. أحدهم يقول:

“العالم لا ينمو بثبات، بل يتقلّب بين الضيق والفرص كنبضات القلب.”

خريطة الصادرات: من يصنع العالم فعلاً؟

دعونا نركب الطائرة… لا وجهة واحدة بل 10 وجهات رئيسية. نبدأ من الشرق، حيث المارد الصيني ما زال يحافظ على عرشه، برقم مذهل:

3.58 تريليونات دولار صادرات، وفائض تجاري يقترب من التريليون.

الصين لا تصدّر سلعًا فقط، بل تصدّر فلسفة تجارية كاملة: من الذكاء الصناعي إلى الرقائق الدقيقة. في شنجهاي، التقينا مدير مصنع قال ضاحكًا:

“حين ينام الغرب، نُنتج. وحين يستيقظ… نُصدّر!”

أما الولايات المتحدة، صاحبة الاقتصاد الأول عالميًا، فقد تصدّرت قائمة المصدرين بـ 3.19 تريليون دولار، لكنها غرقت في عجز تجاري يُقارب تريليون دولار.

في ممرات وزارة التجارة الأميركية، همس مسؤول قائلاً:

“أنتجنا أقل مما نستهلك… والهوة تزداد، رغم كل التعريفات.”

ألمانيا، تلك الدولة التي تقيس الجودة كأنها شيفرة وطنية، تُسجّل فائضًا تجاريًا بـ 281 مليار دولار، بفضل الآلات، والكيميائيات، والسيارات. حتى وسط ركود أوروبا، تبقى برلين تصدّر بثقة لا تعرف الهلع.

الهند، الحصان الأسود، دخلت المشهد بقوة، خاصة في قطاع الخدمات، الذي نما بأكثر من 13٪.

“نحن لا نبيع سلعًا، بل نبيع عقولنا!” – هكذا قال لي مهندس برمجيات في حيدر آباد.

الدول العربية: حان وقت الرواية البديلة

خلال السنوات العشر الماضية، سادت فكرة أن العرب لا يمكنهم الخروج من عباءة النفط. لكن في 2024، تلك القاعدة بدأت بالاهتزاز.

زرنا دبي، والتقينا بـ”نورة”، شابة إماراتية تدير مشروعًا للتكنولوجيا الصناعية في المنطقة الحرة. قالت لنا:

“نحن لا نحلم فقط، نحن نبني… بشحنات تُصدّر يوميًا من ميناء جبل علي إلى كل القارات.”

الإمارات سجّلت صادرات غير نفطية تجاوزت 152.8 مليار دولار، بنمو 27.6٪ سنويًا. النمو لم يكن صدفة، بل نتاج خطط مدروسة استمرت لأعوام.

في الرياض، حدث ما لم يكن يُتوقع قبل عقد فقط: حديث الشباب يدور حول الخدمات اللوجستية، التعدين، وتكنولوجيا الهيدروجين، بدلًا من براميل النفط.

السعودية صدّرت بما يفوق 137 مليار دولار من منتجات غير نفطية.

“رؤية 2030 أصبحت عملًا لا شعارًا.” – هكذا قال لنا وكيل وزارة الاستثمار.

في الدار البيضاء، رائحة الفوسفات تختلط بصوت آلات صناعة السيارات. المغرب يتحوّل لمركز صناعي ينافس في أفريقيا وأوروبا معًا، رغم عجزه التجاري المؤلم.

مصر، رغم التحديات، تستعيد قدراتها التصديرية، خصوصًا في القطاعات المعدنية والوقود. واللافت كان نمو صناعات الإلكترونيات الخفيفة في المناطق الحرة.

أما الأردن، بلد صغير بمساحة لكنه كبير بالطموح، فقد جعل من الأدوية والأسمدة سلاحًا اقتصاديًا ذكيًا، بفضل استقرار تشريعي وبيئة استثمارية جذابة.

العالم يتغيّر، فهل نحن مستعدون؟

التعريفات الجمركية الجديدة التي أعادها ترامب، لو عاد رسميًا للرئاسة، تُهدد بتقويض استقرار السوق العالمي.

سلاسل الإمداد تشهد اضطرابات غير مسبوقة، خاصة في التكنولوجيا الدقيقة والمواد الخام، ما يُعيد تشكيل الخريطة الإنتاجية.

الحروب الجيوسياسية من تايوان إلى أوكرانيا تضغط على الأسواق، وتُهدد بتضخّم عالمي جديد.

وبين كل ذلك، الدول العربية – خاصة الخليجية – تملك ورقة نادرة: القدرة على التكيّف بسرعة، والرغبة السياسية في التنويع، وموارد أولية لبناء صناعة متقدمة.

دروس من الكبار… وتنفيذ محلي ذكي

من الصين:

  • التركيز على البنية التحتية، والصناعات التي تقود المستقبل، لا تابعة له.

من هولندا:

  • بناء لوجستيات ذكية تخدم التصدير وتُسرّع الوصول.

من الهند:

  • الاستثمار في العقول، لا المواد فقط.

من الإمارات والسعودية:

  • الرؤية الجريئة المدعومة بتنفيذ واقعي.

توصيات تحريرية للمستقبل العربي

  1. تكثيف الاستثمار في التعليم التطبيقي: ربط الجامعات بسوق العمل لا الشعارات.
  2. تحفيز الصناعات الدقيقة: عبر شراكات مع شركات عالمية (كالرقائق، الأجهزة الطبية).
  3. الاستفادة من الطاقة المتجددة: ليس فقط للتوفير، بل للتصدير الأخضر.
  4. تشجيع الصادرات الخدمية: تقنية، تعليم، طب عن بعد، تمويل إسلامي.
  5. بناء قصة اقتصادية عربية موحدة: لأن “السوق المشتركة” يجب ألا تبقى حلماً قديماً.

القصة لم تنتهِ بعد

إذا كنت تقرأ هذه السطور الآن، فاعلم أن التجارة لم تعد أرقامًا تُلقى على الطاولة. إنها قصة بشرية بامتياز: تروي طموح الأمم، وصراعها بين ما ورثته، وما تتمنى أن تبنيه.

الدول العربية تكتب فصلها الاقتصادي الجديد بأدوات المستقبل. ليس المهم فقط ما نُصدّره، بل كيف نروي قصتنا للعالم من خلاله.

في غرف الأخبار، في موانئ التصدير، وفي معامل التصنيع الحديثة… هناك قصة تُكتب الآن.
والسؤال الوحيد:
هل نكون جزءًا من السطر القادم؟ أم نظل على الهامش؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *