غير مصنف

تيك توك بين واشنطن وبكين.. معركة قرن جديد

لا يُخفي التاريخ حقيقة أن التكنولوجيا لطالما كانت ساحة صراع بين القوى الكبرى. من سباق الفضاء إبان الحرب الباردة إلى سباق الذكاء الاصطناعي اليوم، نجد أن أدوات السيطرة لم تعد فقط جيوشاً ودبابات، بل بيانات وخوارزميات. ولعل أزمة “تيك توك” بين الولايات المتحدة والصين تمثل ذروة هذا التحول: معركة على العقول قبل أن تكون على الأسواق.

الأمن القومي في مواجهة الخوارزمية

منذ اللحظة الأولى، لم تُخف واشنطن قلقها العميق من التطبيق الصيني الذي اجتاح العالم بسرعة قياسية. السبب الرئيسي لم يكن مجرد تفوق تقني، بل الشكوك حول أمرين أساسيين:

  1. البيانات والأمن القومي: تخوفت الإدارة الأميركية من أن بيانات مئات الملايين من المستخدمين الأميركيين قد تكون عرضة لوصول الحكومة الصينية، بحكم القوانين الاستخباراتية في بكين. وفي عصر تتحول فيه البيانات إلى نفط القرن الواحد والعشرين، لا يُستهان بخطر كهذا.
  2. التأثير الخفي: الخوارزمية التي تحدد ما يشاهده الجمهور لم تعد مجرد كود رقمي، بل أداة يمكن أن تعيد تشكيل الرأي العام. في واشنطن، كان هناك خوف حقيقي من إمكانية استخدامها للتلاعب بالانتخابات أو بث روايات تخدم مصالح الصين.

انطلاقاً من هذين المحورين، تحولت الأزمة إلى قضية أمن قومي من الطراز الأول. فكان لا بد من قانون يجبر “بايت دانس” المالكة للتطبيق على بيع أصوله الأميركية أو مواجهة الحظر الكامل.

إدارة ترامب ترسم المسار

على مدى عامين، ظل “تيك توك” معلقاً بين الحظر والنجاة. ففي يناير 2025، أُقرّ الحظر رسمياً، قبل أن يُعلَّق مراراً بقرارات من الرئيس دونالد ترامب، الذي اختار أن يحوّل الأزمة إلى صفقة كبرى تحمل طابعاً تجارياً وسياسياً في آن واحد.

ترامب لم يكتفِ بالتهديد، بل قرر أن يجعل من الأزمة ورقة ضغط لتحصيل مكاسب استراتيجية. فأعلن البيت الأبيض عن اقتراب إتمام صفقة بيع الأصول الأميركية للتطبيق، وأكد مسؤولون أميركيون أن الصين وافقت عليها ضمنياً. وبهذا، انتقل الصراع من كونه مواجهة صفرية إلى اتفاق يُعيد تشكيل ملكية وإدارة المنصة.

سيطرة أميركية بشروط صارمة

بحسب التسريبات والتصريحات الرسمية، تقوم الصفقة المنتظرة على عدة ركائز:

  • ملكية أميركية للأصول: المستثمرون الأميركيون، بمن فيهم لاري إليسون، مايكل ديل، ورجل الإعلام لاكلان مردوخ، سيملكون الحصة الأكبر من عمليات “تيك توك” الأميركية.
  • إدارة البيانات والخوارزمية: تتولى شركة “أوراكل” مسؤولية تخزين بيانات المستخدمين الأميركيين وتشغيل الخوارزمية من داخل الولايات المتحدة، وهو ما يُفترض أن يقطع أي ارتباط مباشر بالصين.
  • مجلس إدارة محلي: ستُدار الشركة من قبل مجلس أميركي يضم خبراء في الأمن القومي والأمن السيبراني، مع هيمنة واضحة للأعضاء الأميركيين (6 من أصل 7 مقاعد).
  • عوائد مالية للحكومة الأميركية: الصفقة ستدر مليارات الدولارات على الخزينة الأميركية عبر رسوم تنظيمية واستثمارات.

بين السيادة والرمزية

الصفقة، كما وُصفت في واشنطن، تمثل نصراً للسيادة الرقمية الأميركية. فقد نجحت الإدارة في إجبار شركة صينية كبرى على التخلي عن سيطرتها المباشرة، وضمنت إشراف شركات أميركية على البيانات والخوارزمية. هذا بحد ذاته يُعتبر سابقة في العلاقات الاقتصادية والتكنولوجية الدولية.

لكن من ناحية أخرى، لم تفقد بكين كل شيء. صحيح أن واشنطن فرضت شروطها، لكن الصين تحتفظ بالانتصار الرمزي: “تيك توك” سيظل في الوعي العالمي تطبيقاً صينياً بامتياز، صنعته عقول بكين وصدّرته إلى كل بيت. وهذا الولاء الذهني يصعب تغييره بالقوانين أو الصفقات.

بداية حقبة جديدة من الحروب التكنولوجية

الأزمة لم تتوقف عند حدود أميركا والصين، بل فتحت الباب أمام دول أخرى لإعادة النظر في تعاملها مع التطبيقات الأجنبية. أوروبا تناقش تشريعات أشد صرامة بشأن البيانات. الهند سبقت الجميع بحظر تطبيقات صينية عدة. حتى في الشرق الأوسط وأفريقيا، بدأ الحديث يتصاعد حول ضرورة “السيادة الرقمية” وحماية البيانات الوطنية.

النتيجة أن العالم يدخل مرحلة جديدة: مرحلة تكنولوجية تشبه إلى حد كبير الحرب الباردة، حيث لا يقتصر التنافس على السلاح، بل يشمل التطبيقات والمنصات الرقمية التي تشكل وعي المجتمعات.

واشنطن أم بكين: من انتصر فعلاً؟

  • انتصار أميركي مؤقت: واشنطن فرضت شروطها، وأجبرت “بايت دانس” على الانصياع. بهذا المعنى، كسب ترامب جولة مهمة وأثبت أن الولايات المتحدة قادرة على حماية أمنها القومي حتى في الفضاء الرقمي.
  • انتصار صيني رمزي: رغم كل شيء، يظل التطبيق نفسه شاهداً على التفوق الصيني في مجال ابتكار منصات قادرة على منافسة العملاق الأميركي في عقر داره. وها هو “تيك توك”، برغم الضغوط، يواصل هيمنته على المشهد الثقافي والاجتماعي عالمياً.

ما وراء تيك توك

القضية أكبر من مجرد تطبيق ترفيهي. “تيك توك” تحول إلى مرآة للصراع بين نموذجين:

  • نموذج أميركي يسعى إلى فرض السيطرة عبر التنظيم والملكية.
  • ونموذج صيني يركز على الابتكار والانتشار العالمي.

في النهاية، قد يكون ترامب ربح جولة بفرضه شروطاً صارمة وضمانه مكاسب مالية وسياسية. لكن الصين ربحت معركة الوعي والهوية، إذ ستظل مرتبطة في الأذهان بأنها صاحبة الفكرة التي قلبت معادلات التواصل الرقمي. وما بين واشنطن وبكين، يبقى السؤال مفتوحاً: هل نحن أمام أزمة عابرة أم بداية معركة طويلة تُحدد شكل القرن الحادي والعشرين؟

 

الاشتراك في خدمات شركة أمواج كابيتال

إذا كنت ترغب في الاستفادة من التقلبات الاقتصادية في الأسواق العالمية، يمكنك الآن
فتح حساب في شركة أمواج كابيتال من هنا.

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *