غير مصنف

العالم على مفترق طرق: حين تتكلم الأرقام بصوت الإنذار

في كل تقويم اقتصادي، هناك إشارات تُقرأ بالبوصلة المالية، وأخرى تُقرأ بعدسة التاريخ. أما حين تتقاطع الأرقام مع العناوين العريضة للتغير الجيوسياسي، فإن الأمر يتعدى حدود الحسابات المالية ليصبح سؤالًا وجوديًا: إلى أين يمضي العالم؟ وما مستقبل الاقتصاد العالمي في زمن التباطؤ والاضطراب؟

تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الصادر مطلع يونيو 2025، لم يكن مجرد وثيقة تقنية تنبؤية كغيره من تقارير المؤسسات المالية، بل جاء بمثابة جرس إنذار شديد اللهجة، يعلن – بعبارات مدروسة وواقعية صارمة – أن العالم يقترب من مرحلة إعادة هيكلة كبرى لمنظومته الاقتصادية، عنوانها الأبرز: نمو هش، وثقة متآكلة، وساحة دولية تزداد اضطراباً.

من 3.3 إلى 2.9%: انزلاق لا يستهان به

الرقم البارز في التقرير هو تراجع معدل النمو العالمي المتوقع من 3.3% في 2024 إلى 2.9% في عامي 2025 و2026. قد يبدو الفرق هامشيًا لمن ينظر إلى الاقتصاد بمنظار الأرقام فقط، لكنه في الحقيقة يعكس حالة من التباطؤ المتسلسل والهيكلي، ويضعف كثيرًا من فرص تحقيق انتعاش مستدام بعد سلسلة من الصدمات التي لم تهدأ بعد: جائحة كوفيد-19، الحرب الروسية الأوكرانية، ثم الحروب التجارية المتجددة.

هذا التراجع لا يُقرأ فقط كنسبة، بل كدلالة على هشاشة “التعافي” الذي تبنته الأسواق العالمية خلال السنوات الثلاث الماضية. فالنمو دون 3% في عالم مترابط يعتمد على سلاسل توريد معقدة وقنوات استثمار متشابكة، يعني ببساطة: أننا في حالة اقتصادية غير صحية، وإن بدت بعض المؤشرات الأخرى مغرية أو واعدة.

أميركا في عين العاصفة

الولايات المتحدة، التي لا تزال تقود قاطرة الاقتصاد العالمي وإن بصعوبة متزايدة، تواجه واحدة من أعقد دوراتها الاقتصادية منذ أزمة 2008. توقعات النمو في أمريكا تهبط إلى 1.6% في 2025، و1.5% في 2026، وهو ما يشير إلى تباطؤ شديد يهدد السوق الأمريكي بالركود، ويقوّض ثقة المستثمرين داخليًا وخارجيًا.

الأسباب متعددة، تبدأ من ارتفاع الرسوم الجمركية في ظل تصاعد السياسات الحمائية، مرورًا بتقلص أعداد المهاجرين – المحرك الديمغرافي الحيوي للنمو الأميركي – وصولاً إلى تخفيضات في التوظيف الحكومي، وهو ما يعني تباطؤ الإنفاق العام في الوقت الذي يحتاج فيه الاقتصاد الأميركي لضخ أموال لمواجهة التباطؤ.

التحولات في السياسة الأميركية، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، تضع الأسواق في حالة ترقب مضطرب. فالإدارة الحالية تتبنى خطًا حمائيًا قد يرضي قطاعات محددة من القاعدة الانتخابية، لكنه يضر بصورة أمريكا كقائدة للعولمة الاقتصادية.

أزمة ثقة تتجاوز واشنطن

الأزمة ليست أمريكية فقط. كندا والمكسيك، جارتا الولايات المتحدة وشريكتاها في الاتفاقات التجارية، تتعرضان أيضًا لضغوط غير مسبوقة، بسبب التوترات التجارية مع واشنطن. الاقتصاد المكسيكي، المعتمد على السوق الأمريكية في أكثر من 80% من صادراته، يواجه تهديدًا وجوديًا، فيما تحاول كندا البحث عن منافذ بديلة دون جدوى تُذكر.

أما في الصين، فعلى الرغم من الجهود التحفيزية التي تضخها بكين في السوق، فإن النمو يتباطأ من 5.0% في 2024 إلى 4.3% في 2026، تحت تأثير الضغوط الهيكلية المتراكمة، وارتفاع ديون القطاع العقاري، وتراجع الطلب المحلي. الاقتصاد الصيني لم يعد ذلك الدينامو القادر على إنعاش الاقتصاد العالمي بمجرد خفض الفائدة أو تمويل مشاريع البنية التحتية.

منطقة اليورو.. بصيص أمل في العتمة؟

المفاجأة الإيجابية النسبية الوحيدة جاءت من منطقة اليورو، حيث تشير التوقعات إلى تحسن تدريجي، من نمو 0.8% هذا العام إلى 1.2% بحلول 2026. ومع ذلك، لا ينبغي أن ننخدع بهذا الرقم، فالنمو في أوروبا لا يزال محدودًا وهشًا، ويعتمد بدرجة كبيرة على تراجع أسعار الطاقة، وتحسن الطلب الاستهلاكي المحلي.

الأهم من ذلك، أن أوروبا تواجه تحديات غير اقتصادية ستنعكس حتمًا على الأداء المالي، من أزمة الهجرة، إلى صعود التيارات الشعبوية، إلى اضطرابات قطاع الطاقة في ظل الصراع المستمر في أوكرانيا.

التضخم: العدو الذي لم يغادر

رغم التراجع النسبي في معدلات التضخم، فإن المنظمة تحذر من ضغوط سعرية متجددة، خاصة في الدول التي تعتمد سياسات حمائية وفرض رسوم جمركية جديدة. وهنا تتكشف المفارقة الكبرى: في الوقت الذي تحتاج فيه الاقتصادات إلى انفتاح واستقرار لتستعيد زخمها، نجد أن كثيراً من الدول تنجرف نحو الانغلاق والمواجهة، مدفوعة بمخاوف داخلية أو اعتبارات سياسية آنية.

صحيح أن تراجع أسعار السلع الأساسية – كالنفط والغاز والمعادن – قد يخفف من حدة التضخم، لكنه ليس حلاً طويل الأمد، خصوصًا في ظل تزايد الإنفاق العسكري والتوترات الجيوسياسية التي قد تدفع بالأسعار للارتفاع مجددًا.

إنفاق حكومي مفرط أم استثمار استراتيجي؟

النقطة الأخطر التي أشار إليها التقرير هي أن الإنفاق الحكومي المرتفع – خصوصاً في القطاعات الدفاعية – قد يتحول من أداة تحفيز إلى مصدر لاختلالات مالية مزمنة، إذا لم تتم إدارته بوعي طويل الأمد. وعلى الحكومات أن تعي أن دعم الاقتصاد لا يعني فتح خزائن الدولة بلا حساب، بل يتطلب تنسيقًا دقيقًا بين السياسات المالية والنقدية.

في دول مثل الولايات المتحدة والصين، يشكل هذا التحدي عنصرًا فاصلًا بين انتعاش هش أو انهيار مفاجئ.

الاستنتاجات: ما العمل؟

العالم بحاجة إلى لحظة وعي اقتصادي جماعي. لا يمكن الاستمرار في إدارة الاقتصاد العالمي بعقلية ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا بمنطق الشركات المتعددة الجنسيات الباحثة عن الربح فقط. المطلوب هو هندسة جديدة للنمو، تعتمد على تنمية متوازنة، استثمارات خضراء، عدالة تجارية، واستقرار سياسي.

منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أطلقت الإنذار. الكرة الآن في ملعب القادة السياسيين، وصنّاع القرار المالي، وروّاد الأعمال، والمستثمرين.

إننا نعيش لحظة فاصلة في التاريخ الاقتصادي العالمي. وما لم نتعامل مع هذه اللحظة بعقلية استراتيجية، فإن العقد القادم لن يكون عقد ازدهار، بل عقد أزمات متواصلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *