قانون التعدين 2023… بين قفزة سيادية وغضب المستثمرين
في قلب غرب أفريقيا، وتحديدًا بين الهضاب الجنوبية والغابات المدارية الغنية بالمعدن الأصفر، تخوض مالي واحدة من أعقد معاركها السيادية منذ الاستقلال. لكن هذه المرة، المعركة ليست ضد مستعمر، ولا ضد جماعات مسلحة فقط، بل ضد معادلة اقتصادية دولية فرضت لعقود طويلة شروطها على الدول المُنتجة للموارد، واحتكرت العوائد، وتركت الفُتات للبلدان المضيفة.
ما يحدث اليوم في مالي هو إعادة صياغة للعقد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بين الدولة وشركات تعدين الذهب، في محاولة لاستعادة السيطرة على الثروة المنهوبة، تحت مظلة قانون التعدين الجديد لعام 2023. قانونٌ أربك السوق، وأربك الشركات، لكنه في الوقت نفسه، رفع سقف طموحات الدولة وشعبها، وأسّس لنقاش يتجاوز مالي، ليمسّ كل أفريقيا.
في فم البركان: ولادة قانون تحت الضغط
لم تكن عملية تمرير قانون التعدين الجديد في مالي عملية هادئة ولا سلسة. القانون الذي صدر عام 2023 جاء تتويجًا لسلسلة طويلة من المفاوضات القاسية، والضغوط المتبادلة، والتهديدات المتبادلة بين الحكومة الانتقالية في باماكو وشركات تعدين الذهب العالمية، التي لطالما اعتادت العمل في بيئة تنظيمية “مرنة”، إن لم نقل “رخوة”.
المجلس العسكري بقيادة آسيمي غويتا، والذي يملك اليوم السلطة التشريعية والتنفيذية، قرّر أن اللحظة مناسبة لكسر الحلقة المفرغة من التبعية القانونية والمالية. فبالنسبة له، الذهب ليس مجرد مورد اقتصادي، بل ورقة سيادة، وسلاح تفاوض إقليمي ودولي، وربما آخر ما تبقى في يد الدولة لتعزيز موقعها في خريطة النفوذ العالمي.
القانون الجديد ألغى الإعفاءات الضريبية القديمة، ورفع مساهمات الشركات في الميزانية العامة، ومنح الدولة حصة تصل إلى 30% في كل مشروع تعدين، إلى جانب 5% مخصصة للقطاع الخاص المالي. بهذا، لم يعد ممكناً للشركات الأجنبية أن تُسيّر عملياتها في مالي كما كانت في السابق، دون مساءلة أو مشاركة حقيقية للدولة.
منجم لوولو-غونكوتو: ساحة المعركة الذهبية
لا يمكن الحديث عن تطبيق قانون التعدين الجديد دون التوقف عند “منجم لوولو-غونكوتو”، الأكبر في البلاد، والذي تديره المجموعة الكندية “باريك ماينينغ”. هنا تحوّل القانون إلى أزمة سياسية واقتصادية ودبلوماسية.
رفض “باريك” الانصياع المباشر للقانون الجديد فجّر أزمة مع الحكومة المالية، انتهت باعتقال 4 من مسؤولي الشركة، ومذكرة توقيف بحق مديرها التنفيذي مارك بريستو. الخطوة التصعيدية التي اتخذتها باماكو بوقف جميع صادرات المنجم ومصادرة الذهب المستخرج منه، كانت بمثابة إعلان صريح: لا استثناءات بعد اليوم.
ردّت الشركة بتعليق عملياتها في يناير، قبل أن تعلن السلطات القضائية لاحقًا وضع المنجم تحت إدارة مؤقتة بطلب من الحكومة. وبهذا، تكون مالي قد دخلت فعليًا في نمط من “التأميم الزاحف”، حتى وإن لم يُعلن صراحة.
الشركات تُساير… أو تُستبعد
أمام إصرار باماكو، بدأت معظم شركات التعدين الأخرى بالاستجابة. شركات مثل “فابولا غولد” المشغّلة لمنجم كودييران، و”باغاما ماينينغ” غرب مالي، وقّعت اتفاقيات جديدة تماشياً مع الإطار القانوني. حتى المجموعة البريطانية “إنديفور ماينينغ”، التي تعد من الأضخم في غرب أفريقيا، قبلت بالشروط، رغم تحفظها على جدوى مشروعها في كالانا قرب غينيا.
لكن هذه القبولات لم تكن جميعها طوعية. خلف الستار، مورست ضغوط شديدة، وصلت إلى السجن المباشر، كما في حالة “ريزولوت ماينينغ” الأسترالية، حين سُجن مديرها التنفيذي تيري هولوهان أثناء إحدى مراحل التفاوض.
هذه الأحداث لم تمر دون رد فعل عالمي. فالأسواق تراقب عن كثب، وعواصم غربية بدأت تُلوّح بإعادة تقييم بيئة الاستثمار في مالي، خاصة مع وجود تقارير استخباراتية تتحدث عن تزايد نفوذ شركاء روسيا، مثل “فاغنر” سابقاً و”الفيلق الأفريقي” حالياً، في مناطق التعدين.
ذهب مالي: بين شهوة الشركات وحلم الدولة
لا يمكن لأي مراقب موضوعي أن يُنكر أن قطاع الذهب في مالي كان لعقود طويلة يُدار بطريقة تُراعي مصالح الشركات أكثر من مصالح الدولة. ففي الفترة ما بين 2021 و2022، ورغم الارتفاع النسبي في المداخيل، لم تكن مساهمة الشركات الأجنبية في الميزانية تعكس حجم الإنتاج أو قيمة المبيعات.
تقرير مبادرة الشفافية للصناعات الاستخراجية لعام 2023، أشار إلى أن 98% من إيرادات القطاع الاستخراجي ذهبت مباشرة إلى الخزينة العامة، لكن السؤال الذي طرحه كثيرون هو: كم كان يجب أن تكون هذه الإيرادات أصلاً؟ وأين تذهب الفروقات؟
تقديرات شركات التدقيق، مثل “مازار” و”إيفنتوس ماينينغ”، كشفت أن مالي كانت تخسر سنويًا ما بين 300 إلى 600 مليار فرنك أفريقي بسبب الثغرات القانونية وسوء الإدارة. أي ما يعادل تقريبًا مليار دولار. وهنا كان لا بد من تحرك جذري.
قانون سيادي… أم طارد للاستثمار؟
الجدل حول قانون التعدين الجديد ليس ماليًّا فقط، بل صار إفريقيًا. فالمعادلة القديمة التي تقول إن السيادة الكاملة تُفرّغ الاستثمار الأجنبي، لم تعد تلقى القبول الكامل كما في السابق.
المجلس العسكري في مالي يرى أن الاستثمارات الأجنبية لا ينبغي أن تكون مرادفًا للإعفاءات، ولا يجب أن تأتي على حساب حقوق الدولة في إدارة مواردها. وبالنسبة له، القانون الجديد هو تأكيد للسيادة، وليس إعلان حرب على المستثمرين.
في المقابل، تنظر الشركات الأجنبية، خصوصًا الكندية والأسترالية، إلى ما يحدث كمخاطرة كبيرة. القلق لا يرتبط فقط بالضريبة، بل بعدم الاستقرار القانوني وبتجاوز مفهوم “الاستقرار القانوني” المتعارف عليه، حيث لا تنطبق القوانين الجديدة بأثر رجعي.
ماذا بعد؟ سؤال المرحلة القادمة
هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها: مالي في لحظة تحول. لكن ما لم يُحسم بعد هو اتجاه هذا التحول. فهل ستنجح الدولة في بناء نموذج جديد لإدارة الثروة المعدنية يحقق التوازن بين جذب الاستثمارات وحماية السيادة؟ أم أننا أمام “قانون تصادمي” سرعان ما سيُراجع تحت الضغط الدولي؟
الخطوة القادمة ستكون حاسمة. نجاح أو فشل تجربة مالي قد يفتح الباب أمام دول أفريقية أخرى لاعتماد نماذج شبيهة، من بوركينا فاسو إلى النيجر وحتى السودان.
كما أن قدرة الدولة المالية على توظيف العوائد الإضافية بطريقة شفافة وفعالة ستحدد مدى شرعية القانون داخلياً. فتجربة تخصيص حصص من العائدات لصناديق تنموية مثل صندوق البنية التحتية وصندوق توظيف الشباب، إن نُفذت بشفافية، ستكون ورقة رابحة.
كلمة أخيرة: الذهب لا يُلمع إلا بيد صاحبه
في النهاية، لا بد من الاعتراف أن ما يحدث في مالي اليوم ليس مجرد “تعديل قانون تعدين”، بل محاولة جريئة لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة وشركات الموارد. ومن قلب هذه المواجهة، تخرج مالي بسؤال أكبر: لمن يجب أن يكون الذهب؟ لأصحاب المكاتب في تورنتو وملبورن؟ أم لأصحاب الأرض الذين يعيشون فوق مناجمه؟
الذهب لا يُلمع إلا بيد صاحبه. وإذا كانت الدولة قد قررت أن تعود لتلمس بيديها ثروتها، فإن التحدي الأكبر الآن ليس في سن القوانين، بل في القدرة على إدارتها بشفافية، والقدرة على الصمود أمام سطوة الشركات، والقدرة على إقناع الشعب بأن ما حدث كان لصالحه فعلاً، لا مجرد جولة أخرى في معركة النفوذ.