غير مصنف

الذهب فوق 4,000 دولار للأونصة: مفترق مصيري في زمن تهاوي الثقة

 

بصوت لا يُخالطه شك، يعلو السؤال: هل أننا أمام لحظة تاريخية يفصل بعدها الذهب كقطب أساسي في النظام المالي العالمي؟ في مطلع أكتوبر 2025، اجتاز سعر الأونصة الذهبية حاجز 4,000 دولار للمرة الأولى في التاريخ، في مشهد يبدو أقرب إلى حقبة جديدة من الصراع بين “المعدن الخالد” و”الأصول الائتمانية”.

١. الذهب: من ذخيرة إلى عملة بديلة

على مدى آلاف السنين، لم يفقد الذهب مكانته كمخزون للقيمة، لكنه لم يكن في كثير من الفترات أداة تداول أو سنداً مالياً يُستخدم يوميًا. تعلَّم الإنسان أن يحفر الذهب، يكرّمه، يذيبُه ويشكّله، يخبّئه أو يرسّمه كزينة. لكن أن يجعله ركيزة لاكتساب الثقة المالية في عصر تهيمن عليه الديون الرقمية، الأصول المالية، والسندات السيادية… هذا تغيير جذري.

في شهادة شهيرة أمام الكونغرس الأميركي عام 1912، قال المُصغّر الجريء جيه بي مورغان:

“الذهب هو المال، وكل شيء هو ائتمان.”

لم تكن تلك العبارة مجرد شعور تجاه معدن ملون، بل إعلان مبكر عن أن الذهب – في أوقات الأزمات – هو الملاذ الذي لا يستمد ثمنه من وعود أحد، بل من ندرة نفسه وتاريخ طويل من تقبُّل الإنسان له كمعيار للقيمة.

اليوم، ونحن نشهد تجاوزه حاجز 4,000 دولار، يبدو أن الذهب يعلن استعادة دوره كمقوّم احتياطي يُعاد إليه النظر في خضم أزمة الثقة في العملات الورقية.

٢. لماذا الآن؟ العوامل التي دفعت الذهب إلى الصعود

ليس ارتفاع الذهب وليد لحظة عابرة، بل تراكب لأسباب عميقة هيمنت على المشهد الاقتصادي والسياسي العالمي:

أ. ضعف الثقة في العملات الورقية والدولار

في الأعوام الأخيرة، تراكمت الديون العامة في الاقتصادات الكبرى إلى نسب فاقت ما كان يُعتقد مستدامًا. في الوقت نفسه، سياسات التيسير الكمي، الطباعة النقدية، وضغوط التضخم المزمن أضعفت كثيرًا من المصداقية التي كانت تُمنَح للعملات كأداة حفظ للقيمة.

عندما يبدأ المستثمرون في التساؤل عمّا إذا كانت العملات الورقية “ستخسر” أمام الزمن، فإنهم يبحثون عن بدائل حقيقية — والذهب يبرز كخيار طبيعي.

إلى ذلك، ضعف الدولار الأميركي في فترات عدة من هذا العام دعم الطلب على الذهب من قبل المستثمرين الأجانب، لأن المعدن يصبح أرخص نسبيًا بعملات أخرى.

ب. التوترات الجيوسياسية والأزمات المتلاحقة

الحروب، التوترات في الشرق الأوسط، التنافس الإمبراطوري بين القوى الكبرى، والانقلابات المالية تزرع في نفس المستثمر الخوف من “ماذا لو”: ماذا لو فشلت المؤسسات؟ ماذا لو انهارت الأصول الائتمانية؟

في مثل هذه اللحظات، لا يُسأل المستثمر “ما الربح” بل “كيف أحمي ما أملك”. ويكون الجواب: الذهب.

ج. الطلب الرسمي والمؤسساتي

لم تعد عمليات شراء الذهب مقتصرة على الأفراد؛ بل تحوّل إلى استراتيجية للبنوك المركزية، الصناديق السيادية، والمؤسسات الاستثمارية الكبرى. وهذا الطلب “الرسمي” يختلف عن المضاربات اليومية؛ هو طلب مدفوع بوظيفة الذهب كأصل استراتيجي.

تحليلات عدة توقّعت بقاء السعر عند مستوى متذبذب بين 4,050 و4,200، أو حتى الارتفاع تدريجيًا نحو 4,500 دولار، في حال ترسخت الاتجاهات الصاعدة. (IG)

د. الأثر النفسي والتسارع (الزخم)

أحيانًا يكون الارتفاع المبالغ فيه نفسه دافعًا لاستمرار الارتفاع: المتداولون يخافون “فوات الفرصة”، ويشترون ليس بناءً على تحليل أساسيات بل على توقع أن السعر سيواصل الارتقاء. هذا الزخم يُغذّي نفسه.

لكن، كما سنرى لاحقًا، الزخم القوي يمكن أن يكون أيضًا بوابة الانكسار.

٣. بين دا ليو وبافيت: جدل الذهب في عقل المستثمر

لا يمكن الحديث عن الذهب المعاصر دون استحضار صوتين برزا على مدار العقود:

راي دا ليو: الذهب كحماية من تآكل الائتمان

راي دا ليو، مؤسس “بريدج ووتر”، منذ سنوات يُذكّر المستثمرين بأن الأزمات الائتمانية التي تجتاح الاقتصاد العالمي تجعل من الذهب ضرورة. في خطاباته الأخيرة، يُقترح أن يخصص المستثمرون نحو 10 إلى 15٪ من محافظهم للذهب كدرع ضد الانهيارات المالية.

بالنسبة له، الذهب ليس وسيلة لتحقيق عوائد كبيرة، بل وسيلة للحماية السياسية والمالية؛ هو “تأمين ضد انهيار العملات”.

وارن بافيت: الشك في الذهب كاستثمار

في المقابل، وارن بافيت، أحد أعظم المستثمرين في التاريخ، لطالما عبّر عن شكّه تجاه الذهب. في خطاب ألقاه في جامعة هارفارد عام 1998، قال:

“يُستخرج الذهب من الأرض في أفريقيا، أو من مكان آخر، ثم نصهره، ونحفر حفرة أخرى، وندفنه مجددا، وندفع لأشخاص ليقفوا حوله ويحرسوه. لا فائدة منه.”

نقد بافيت ينطلق من فلسفة أساسية: الاستثمار الحقيقي يجب أن يولد قيمة أو دخلًا — أسهم، شركات، أصول عقارية، إنتاج — أما الذهب فليس فيه إنتاج، ولا عائد.

إن اقتباسك لسكان المريخ وهم يحكّون رؤوسهم — كما في مقالك السابق — يلمح إلى هذا التقابل: من أرض المريخ قد يبدو الأمر بلا معنى، لكن على الأرض، كثير من المستثمرين يفضلون أن يضعوا أموالهم في معدن لا يفي بأي وعد سوى وعد الصمود في الأزمات.

الحقيقة أن كلا الرؤيين فيهما عنصر صواب: نعم، الذهب ليس منتجًا، لكن في أزمنة الثقة التي تنهار، يصبح ما لا يُنتج هو الأثمن.

٤. ما بعد 4,000: مخاطر وصدمات يجب أخذها في الحسبان

ليس كل ارتفاع متواصل، ولا كل زخم بلا سقف. وفيما يلي أبرز “حواجز” الطريق التي يمكن أن تعدل السير:

أ. التقلبات التصحيحية (تصحيحات الزخم)

كما أي موجة قوية، من المحتمل أن تشهد الذهب تصحيحات هبوطية جزئية، حيث يقتنص المضاربون أرباحهم. من دون قدرة على العودة السريع للدعم، قد يمتد الهبوط، خصوصًا إذا فجّر حدث اقتصادي مفاجئ.

ب. عودة قوة الدولار أو تغيير في سياسات الفائدة

لو قرر الاحتياطي الفدرالي التشديد أو رفع الفائدة بشكل مفاجئ، فإن تكلفة حيازة الذهب (فرصة الفائدة الضائعة) قد تصبح ثقيلة، مما يدفع بعض المستثمرين إلى الخروج.

كما أن أي انتعاش مفاجئ في الدولار قد يضغط على السعر بالعكس.

ج. بطء أو توقف الطلب الرسمي

إذا تباطأت البنوك المركزية في شراء الذهب، أو قررت بيع بعض الاحتياطيات، فإن ذلك قد يخفف من الدعامة الأساسية التي تدعم السعر الآن.

د. وصول حد التشبع النفسي

عندما يصبح الذهب “من المألوف” جدًا، قد يلتفت بعض المستثمرين إلى أصول أخرى — الفضة، البلاتين، أو حتى الأصول الرقمية — بمغريات أعلى عائد أو مخاطرة أكبر. هذا ما يُعرف في الأسواق بـ “الملل من الذهب”.

٥. أيّ دور للذهب في محفظتك الآن؟ مقترحات استراتيجية

الارتفاع القياسي في السعر لا يفرض بالضرورة أن يدخل الجميع في موجة الشراء. بل بالعكس، الذكاء في التوقيت والتخصيص. إليك ملاحظات استراتيجية:

  1. كجزء من التوزيع الاستراتيجي
    لا تُعامِل الذهب كبديل لأصول النمو، بل كدعامة أمان. الاحتفاظ بنسبة من الذهب (حتى 5–15٪ حسب المخاطر) يمكن أن يوازن التقلبات.
  2. استدامة الهيكل الزمني
    الدخول الدفعات (Dollar Cost Averaging) أفضل من شراء مفاجئ بالكامل عند ذروة. خذ الربح تدريجيًا إن وصل السعر إلى مستويات بعيدة عن الدعم.
  3. تنويع بدائل المعادن
    قد تتفوق الفضة أو البلاتين مؤقتًا في العائد على الذهب، خصوصًا إذا استمرت الصناعات في طلب المعادن.
  4. المراقبة الدقيقة للأخطار
    راقب سياسات البنوك المركزية، قرارات الفائدة، الدين العام، ومؤشرات الثقة — فهي المؤشرات التي قد تحوّر الاتجاه فجأة.
  5. عدم الربط المطلق نحو الذهب
    تذكّر دومًا ما قاله بافيت: الذهب “لا يصنع لا خبزًا ولا منتجًا” — لذا لا تعتمد عليه وحده. الحفاظ على حصة في الأسهم، المشروعات الإنتاجية، أو الأصول التي تدرّ دخلًا ضروري.

٦. الرهان الأكبر: ماذا لو أصبح الذهب “العملة الحقيقية” في مرحلة ما؟

قد يرون البعض أن تجاوز الذهب 4,000 دولار ما هو إلا بداية لمرحلة يُعاد فيها تأسيس “نظام مالي بديل” يعتمد على القيمة الحقيقية، لا الوعود الائتمانية. في هذا السيناريو:

  • قد يشهد العالم تصاعدًا في السياسات التي تدعم الملكية الحقيقية (عقارات، سلع، معادن) على حساب الديون الائتمانية.
  • قد تتعرّض العملات الورقية الكبيرة (الدولار، اليورو) لضغوط تحويلية كبيرة.
  • قد تبدأ الدول في مراجعة احتياطي العملات الأجنبية لديها نحو الذهب كجزء من “تنويع الحماية”.

لكن هذا ليس سيناريوًّا مضمونًا، بل إنه احتمال يجب أخذه بعين الاعتبار عند بناء صور استثمارية بعيدة الأجل.

لحظة العبور تحمل في طيّاتها كثيرًا مما لم تُكتب فصوله بعد

أن يصل الذهب إلى أكثر من 4,000 دولار للأونصة ليس مجرد رقم جديد في سجل الأرقام القياسية، بل إشارة قوية إلى أن النظام المالي العالمي يمر بمرحلة من التشظّي من الداخل. إنه صرخة في وجه أولئك الذين راهنوا على أن “الثقة الورقية” لا تُقهر.

لكنك، عزيزي القارئ، لست مضطرّا لأن تكون مراقبًا سلبيًا. يمكنك أن تختار أن تكون فاعلاً — أن تبني في محفظتك مناعة، أن توازن بين النمو والحماية، أن تسأل نفسك: “إذا انهارت الثقة غدًا، أين سأكون؟”

في هذا العدد الخاص، نقدم مقالات وتحليلات متعددة من خبراء عالميين ومحليين، لنعينك على قراءة هذا المشهد بعيون لا تخشى المستقبل، بل تستعد له.

وفي النهاية، لنتذكر ما قاله مورغان: “الذهب هو المال، وكل شيء هو ائتمان.” في زمن يتهاوى فيه الائتمان، قد يكون الذهب هو القاعدة التي تبقى ثابتة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *