غير مصنف

أفريقيا تستيقظ: من مناجم منهوبة إلى قلاع سيادة اقتصادية

في أحد صباحات يوليو الغائمة، كانت شمس باماكو تتسلل بتردد إلى أطراف مهبط ترابي قديم، حين حلّقت فوقه مروحية عسكرية ماليّة، محمّلة بكنز لا تُقدّر قيمته بالمال فحسب، بل بالكرامة والسيادة.
طن من الذهب، يُحمّل في صمت على متن الطائرة، بينما الجنود يحرسون الموقع كمن يحرّس حدود وطن. لم يكن مشهداً من فيلم سياسي، بل صفحة حقيقية تُضاف إلى كتاب أفريقي جديد يُكتب الآن، على وقع التحولات الكبرى في النظام الاقتصادي العالمي.

شمس أفريقيا تشرق من باطن الأرض

منذ أكثر من قرن، كانت إفريقيا أشبه بكنز مفتوح، مغلق على أصحابه. الأرض غنية، لكن الأرباح تُصدَّر. الشعوب تملك، لكن السيطرة كانت دائماً في يد “المستثمر الأجنبي”، بدعم سياسي وعسكري واقتصادي من العواصم الكبرى.

لكن شيئاً ما انكسر.

مالي، النيجر، غينيا، والكونغو الديمقراطية، دول لطالما وُصِفت في التقارير الدولية بـ”الهشة”، صارت اليوم ترسم ملامح موجة جديدة: السيادة الاقتصادية على الموارد الطبيعية.
ما يحدث هناك، ليس مجرد قرارات سيادية، بل إعلان استقلال اقتصادي متأخر، تأخّر دهراً لكنه أتى بثقل الحاضر وبصيرة المستقبل.

 الانقلابات التي حرّرت الذهب

في أبريل الماضي، زارني صحفي شاب من النيجر، كان يحمل معه صوراً جوية التقطها عبر طائرة درون لمنجم يورانيوم في منطقة أرليت، وهو ذات المنجم الذي ظلّت تستغله فرنسا لعقود عبر شركتها “أورانو”، دون أن تُضَاف إلى خزائن النيجر سوى فتات.

يقول لي:

“تصوّر أن الكهرباء التي تنير برج إيفل مصدرها يورانيوم النيجر، بينما قرانا تغرق في الظلام.”

توقفت لحظة. هذه ليست شكوى، بل اتهام.

وهنا جوهر التغيّر. فالدول التي مرّت بانقلابات عسكرية في السنوات الأخيرة لم تكتفِ بتبديل رأس السلطة، بل بدأت بإعادة تعريف مفهوم الشرعية والملكية والثروة.

فرنسا خسرت السيطرة على منجم أرليت. كندا تترنّح في منجم الذهب المالي. وشركات عالمية كبرى تراجع حساباتها، ليس خوفاً من المسلحين، بل من القرارات السيادية المتصاعدة.

لماذا تتغيّر قواعد اللعبة الآن؟

منذ بداية 2025، ارتفعت أسعار الذهب بنسبة 27%، وسجّلت البنوك المركزية حول العالم أكبر موجة شراء في تاريخها الحديث، بواقع 20 طناً في مايو فقط.

لكن السبب الأعمق لا يتعلق بالسعر، بل بالمعادلة الجيوسياسية الجديدة.

  1. الذهب في عصر البطاريات والسيليكون

في زمن كانت فيه القهوة والكاكاو والقطن محاور التجارة، كانت إفريقيا مجرد مزرعة. أما اليوم، ومع صعود الطاقة النظيفة، والطلب الجنوني على الكوبالت، الليثيوم، النيكل، وحتى الذهب الصناعي، باتت إفريقيا منجم الكوكب الحقيقي.

  1. القومية التنموية بدل النيوليبرالية

“أسيمي غويتا”، الرئيس الانتقالي في مالي، قالها بوضوح:

“نحن لا نطرد المستثمرين، نحن نُعيد التفاوض باسم الشعب.”

هذا الخطاب يلقى صدى لدى شعوب سئمت من العطالة، والجوع، والديون المشروطة من صندوق النقد والبنك الدولي.

الشركات الغربية في وجه العاصفة

داخل مكاتب الشركات الكبرى مثل “باريك”، و”أورانو”، و”أنجلوجولد”، يدور الآن نقاش لم يسبق له مثيل: هل تستحق المناجم البقاء؟

  1. الترخيص لم يعد كافياً

كان الرهان دائماً على قوة العقود، ومهارة المحامين، والدعم الدبلوماسي. أما اليوم، فإن الحكومة المحلية قد تُعلن التأميم خلال بث مباشر، كما فعلت النيجر.

  1. الاستثمار أم الرحيل؟

في تقرير للخبير الاقتصادي الجنوب إفريقي “فرانسوا كونرادي”، جاء التحذير الصريح:

“من لم يضخ قيمة محلية حقيقية، سيفقد حقه القانوني قبل السياسي.”

الصين وروسيا تكتبان قواعد جديدة

بينما كانت أوروبا وأميركا تفرض شروطاً تتعلق بـ”الحكم الرشيد” و”الإصلاحات الضريبية”، دخلت الصين إلى عمق القارة باتفاقيات قائمة على البنية التحتية، والمصانع، والطرقات.

روسيا بدورها، لم تكتفِ بالسلاح أو النفط، بل أنشأت شركات تعدين صغيرة، وسوّقت لصورة “الشريك غير المتطفل”.

الخيار اليوم أصبح واضحاً لدى القادة الأفارقة: شراكة تُنتج تنمية، لا تقارير ومساعدات مشروطة.

الفصل السادس: البنوك المركزية تعيد رسم خريطة المال

البنك المركزي في بولندا رفع حيازته من الذهب إلى 21% من احتياطياته. الصين أعلنت رفع نسبة الذهب في احتياطاتها من 1% إلى 6.5%.

لماذا؟

لأن الدولار الأميركي فقد خلال النصف الأول من 2025 أكثر من 10% من قيمته، في أسوأ أداء له منذ عام 1973.

الذهب لم يعد مجرد ملاذ آمن، بل صار مكوناً جوهرياً في سياسة نقدية عالمية تحاول فكّ الارتباط بالدولار، والتحوّل نحو عملات وسلع حقيقية.

منجم اليوم هو مصنع الغد

في لقاء جمعني بوزير التعدين الغاني، قال لي بلهجة هادئة:

“لن يُشحن غرام واحد من الذهب دون أن يُصهَر في مصفاة غانية.”

غانا، تنزانيا، الكونغو الديمقراطية، كلها بدأت تبني مصافي ومعامل معالجة للذهب والنحاس والليثيوم.

القيمة المضافة باتت الكلمة المفتاحية. والمستثمر الذي لا يريد الدخول في سلسلة التصنيع، عليه المغادرة.

من يرسم خريطة السيادة الجديدة؟

التاريخ يعيد نفسه. قبل قرن، كان يُقال إن الشمس لا تغيب عن إمبراطورية الاستعمار.
اليوم، يبدو أن الشمس تشرق من جديد، ولكن من قلب القارة التي طالما عاشت تحت الظل.

أفريقيا لا تطرد أحداً، لكنها تطالب بحقها.

في كل تصريح جديد، وفي كل عملية تأميم، وفي كل مصنع قيد الإنشاء، ترسم هذه الدول مستقبلها بيدها، دون إذن من أحد.

إفريقيا لا تستجدي.. إنها تُفاوض من موقع القوّة

إفريقيا اليوم ليست صورة نمطية من مجاعة، أو حرب، أو وباء.
إنها قارة تحوّلت مواردها من غنائم إلى أوراق تفاوض.

من يريد الذهب، عليه أن يبني مصنعاً.
من يسعى إلى اليورانيوم، عليه أن يضيء قرى النيجر.
ومن يتطلع إلى الليثيوم، عليه أن يعلّم شباب تنزانيا كيف يصنعون بطاريات المستقبل.

الدرس واضح: إفريقيا لم تعد ملعباً.. إنها لاعب رئيسي في نظام عالمي جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *