لم يكن يوم الخميس يوماً عادياً في أسواق المال العالمية. الذهب، المعدن الأصفر الذي ظل عبر القرون مرآة تعكس مخاوف الشعوب وملاذاً يحتمي به المستثمرون، يواصل اليوم صعوده المحموم ليقترب من أعلى مستوى تاريخي له على الإطلاق. عند الساعة 06:32 بتوقيت غرينتش، سجلت أسعار الذهب في المعاملات الفورية 3871.99 دولاراً للأوقية، أي بفارق أنفاس قليلة عن قمة الأمس التي لامست 3895.1 دولاراً. المشهد اليوم لم يعد مجرد حركة في السوق، بل مؤشر صريح على زمن اقتصادي متقلب ومشحون بالتوترات السياسية.
الذهب.. صعود يتحدى الجاذبية
اعتاد العالم أن يتابع الذهب كأحد الأصول الدفاعية التي ترتفع قيمتها في أوقات الأزمات، غير أن ما يحدث اليوم يبدو أبعد من مجرد موجة صعود عابرة. العقود الأميركية الآجلة للذهب تسليم ديسمبر استقرت عند 3896.7 دولاراً، وهو مستوى يعكس ثقة المستثمرين في أن المعدن النفيس سيظل مبحراً في اتجاه تصاعدي خلال الفترة المقبلة.
الخبراء لا يترددون في رفع سقف توقعاتهم. تقارير مؤسسات مالية مرموقة ترجح أن يلامس الذهب حاجز 4000 دولار في المدى القريب، وهو ما لم يكن يُتصور قبل سنوات قليلة فقط. لكن هذه التوقعات لم تأت من فراغ، بل من قراءة دقيقة لواقع اقتصادي أميركي مأزوم وأجواء سياسية داخلية وخارجية غير مستقرة.
خلفية اقتصادية قاتمة
البيانات الأخيرة حول سوق العمل الأميركية تكشف عن انكماش مقلق. فقد خسر القطاع الخاص 32 ألف وظيفة في سبتمبر بعد تراجع سابق في أغسطس. هذه الأرقام، التي لا تبدو عابرة في بلد يعتمد اقتصاده على قوة الاستهلاك، تؤكد أن الاقتصاد الأميركي يواجه حالة تباطؤ تقترب من الركود التضخمي.
الأمر لم يتوقف عند حدود سوق العمل. الولايات المتحدة تعيش اليوم على وقع إغلاق حكومي جزئي، بعد أن فشل الكونغرس في تمرير اتفاق تمويل بسبب الانقسام الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين. هذا الإغلاق يعطل آلاف الوظائف الفدرالية ويؤجل صدور تقارير اقتصادية بالغة الأهمية مثل تقرير الوظائف غير الزراعية، الذي ينتظره المستثمرون عادة لتقدير اتجاه الاقتصاد.
سياسة نقدية تحت الضغط
البنك الاحتياطي الفدرالي يجد نفسه في مأزق لا يحسد عليه. التوقعات تشير إلى خفض جديد للفائدة بواقع 25 نقطة أساس هذا الشهر، وفق أداة “فيد ووتش” التابعة لمجموعة CME. خفض أسعار الفائدة، رغم أنه أداة لتحفيز الاقتصاد، يدفع المستثمرين عادة إلى إعادة تموضع محافظهم بعيداً عن الدولار وعوائد السندات، صوب الذهب الذي يزداد بريقه في مثل هذه الأجواء.
لكن المشهد أكثر تعقيداً، إذ يضاف إلى الضغوط الاقتصادية تهديدات سياسية متزايدة، أبرزها ما يلوح به الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بإقالة رئيس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول في حال عودته إلى البيت الأبيض. هذه التوترات تعزز انعدام اليقين في أكبر اقتصاد عالمي، وتفتح الباب واسعاً أمام صعود غير مسبوق للذهب.
ملاذ آمن في زمن الاضطراب
تاريخياً، كان الذهب هو الرابح الأكبر في أزمنة الأزمات. من انهيار وول ستريت في الثلاثينيات إلى أزمة الرهن العقاري في 2008، كان الذهب هو العملة التي لا تفقد قيمتها مهما اهتزت الاقتصادات. واليوم، في ظل حرب جيوسياسية في شرق أوروبا، وصراع تجاري متجدد بين القوى الكبرى، وتضخم ينهك الطبقات الوسطى حول العالم، يعود الذهب ليتصدر المشهد كملاذ آمن.
الفضة والبلاتين والبلاديوم أيضاً تسجل ارتفاعات متفاوتة، لكن التركيز العالمي يظل منصباً على الذهب. الفضة ارتفعت بنسبة 0.1% لتسجل 47.38 دولاراً، البلاتين كسب 0.7% ليصل إلى 1567.41 دولاراً، بينما قفز البلاديوم 2.4% ليبلغ 1274.68 دولاراً.
الذهب والسياسة الأميركية: علاقة متشابكة
لا يمكن قراءة حركة الذهب اليوم بمعزل عن السياسة الأميركية الداخلية. الانقسام بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي لا يعطل فقط مشاريع القوانين، بل يترك أثراً مباشراً على ثقة الأسواق. كلما طال أمد الإغلاق الحكومي، كلما ارتفعت المخاوف بشأن استقرار الاقتصاد الأميركي، وهو ما يترجم فوراً في صعود الذهب.
إضافة إلى ذلك، فإن حالة الشكوك بشأن مستقبل الاحتياطي الفدرالي نفسه تضيف بعداً جديداً. إذا أصبح تغيير القيادة النقدية وارداً مع عودة ترامب أو بضغط سياسي متزايد، فإن هذا وحده كفيل بدفع المستثمرين إلى التحوط عبر الذهب.
توقعات المستقبل: هل يلامس الذهب 4000 دولار؟
السؤال الذي يشغل بال الجميع اليوم: هل يصل الذهب إلى 4000 دولار للأونصة قريباً؟ المحللون يميلون إلى الإجابة بنعم، مع اختلاف في توقيت الوصول إلى هذا المستوى. العوامل الداعمة لهذا السيناريو كثيرة: تباطؤ اقتصادي أميركي، بيئة أسعار فائدة منخفضة، توترات سياسية داخلية، وإغلاق حكومي يطول أمده.
الخبير الاقتصادي مصطفى فهمي يرى أن الركود التضخمي الذي بدأ يطل برأسه على الاقتصاد الأميركي، مقترناً بتراجع مؤشرات عدة، يوفر أرضية صلبة لصعود الذهب. ويضيف أن الإغلاق الحكومي الأميركي، إذا طال، قد يكون الشرارة التي تدفع الذهب إلى تجاوز 4000 دولار في القريب العاجل.
الذهب في ميزان القوى العالمية
لا يقتصر الأمر على الداخل الأميركي. العالم بأسره يترقب بحذر. الصين، أكبر مشترٍ للذهب في العالم، تواصل تعزيز احتياطياتها في محاولة للتحوط من أي صدمات دولارية. روسيا بدورها زادت مشترياتها من المعدن النفيس في ظل العقوبات الغربية. أما الدول النامية، فهي تجد نفسها بين مطرقة الديون الدولارية وسندان التضخم المستورد، ما يدفعها إلى التفكير جدياً في تعزيز أرصدتها من الذهب.
الذهب هنا يتحول من مجرد سلعة إلى أداة سياسية واقتصادية تعكس تحولات موازين القوى في النظام العالمي. كلما ضعفت الثقة بالدولار، كلما ازداد الذهب لمعاناً.
الاضطراب العالمي
الذهب اليوم ليس مجرد خبر اقتصادي عابر. إنه عنوان لمرحلة جديدة من الاضطراب العالمي. اقترابه من حاجز 4000 دولار للأونصة ليس مجرد رقم على شاشات التداول، بل شهادة على عالم يبحث عن ملاذات آمنة وسط عاصفة سياسية واقتصادية تهب من واشنطن وتؤثر على كل قارة وبلد.
قد يُكتب في كتب الاقتصاد يوماً أن العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين كان عقد الذهب، عقد العودة الكبرى لهذا المعدن الذي لم يخن من وثق به. واليوم، كل غرام ذهب يحمله المستثمر هو رسالة تقول: “الثقة في المؤسسات قد تهتز، لكن الذهب لا يهتز”.
الاشتراك في خدمات شركة أمواج كابيتال
إذا كنت ترغب في الاستفادة من التقلبات الاقتصادية في الأسواق العالمية، يمكنك الآن
فتح حساب في شركة أمواج كابيتال من هنا.
https://amwaj-capital.com/open-account/