في لحظة فارقة من تاريخ الاقتصاد الدولي، يعود الذهب إلى الواجهة بقوة غير مسبوقة. لم يعد المعدن النفيس مجرد رقم يتحرك في الأسواق، بل تحوّل إلى مؤشر سياسي ومالي يعكس اهتزازات العمق العالمي. تجاوز الذهب حاجز أربعة آلاف دولار للأوقية للمرة الأولى في أكتوبر 2025، وهو مستوى كان قبل أعوام قليلة يبدو بعيداً عن أي تصور منطقي. لكن ما حدث لم يكن طفرة مضاربية، ولا انفعالاً عابراً ناتجاً عن صدمة اقتصادية. ما جرى هو نتيجة تراكمات في السياسة النقدية العالمية، وانزياحات في موازين القوة الجيوسياسية، وتبدل في تعريف الأمن الاقتصادي ذاته.
ومع دخول العالم العام 2026، تزداد المؤشرات التي تؤكد أن أسعار الذهب لم تبلغ بعد قمة الدورة الحالية، بل ربما لا تزال في منتصف الطريق. تتسارع توقعات البنوك الكبرى، وصناديق التحوط، والبنوك المركزية، لتشير إلى مستويات جديدة قد تصل إلى خمسة آلاف دولار وربما تتجاوزها. هذا التوجه ليس نتاج التفاؤل فقط، بل قائم على متغيرات عميقة باتت تعيد تشكيل خريطة الاقتصاد الدولي.
من ارتفاع تاريخي إلى معادلة استراتيجية جديدة
لم تكن موجة ارتفاع الذهب في 2025 مجرد استجابة لمؤثرات ظرفية. فالعوامل التي دفعت بالمعدن النفيس إلى حاجز أربعة آلاف دولار في أكتوبر من ذلك العام تضرب جذورها عميقاً في هياكل الاقتصاد العالمي. لعل أبرز تلك العوامل كان اضطراب التجارة الدولية بفعل الرسوم الجمركية التي أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب تفعيلها ضمن استراتيجية ضغط تجاري واسعة. أحدثت هذه السياسات ارتباكاً في سلاسل التوريد، ودفت رؤوس الأموال إلى البحث عن ملاذات آمنة.
الذهب كان أول مقصد طبيعي. لكنه لم يكن الوحيد. الدولار كان مرشحاً تقليدياً للملاذ الآمن، والسندات الحكومية كانت تاريخياً منافساً شرساً للذهب. لكن العالم في 2025 كان يعيش حالة فريدة. الدولار فقد جزءاً من بريقه في نظر البنوك المركزية التي بدأت تبحث عن بدائل لضمان الاستقرار على المدى البعيد. أما السندات، فتأثرت بارتفاع مستويات الديون السيادية وضبابية السياسة النقدية الأميركية.
في هذا السياق، كان الذهب هو الخيار الأكثر وضوحاً. وللمرة الأولى منذ عقود طويلة، عاد المعدن الأصفر ليشكل محوراً أساسياً في سياسات الاحتياطيات الدولية، وليس مجرد عنصر مكمل.
البنوك المركزية تعود إلى الذهب بقوة تاريخية
شهدت الأعوام بين 2022 و2025 أكبر موجة شراء للذهب من قبل البنوك المركزية منذ أكثر من سبعين عاماً. اشترت البنوك في 2022 ما يقرب من 1100 طن، وهو أعلى مستوى منذ منتصف القرن الماضي. واستمر الشراء الكثيف في 2023 و2024، ثم تضاعف الاتجاه في 2025.
هذا الانجراف الجماعي نحو الذهب لم يكن حركة عبثية. كانت هناك ثلاثة اعتبارات جوهرية وراءه:
1. تراجع الثقة في الدولار كعملة احتياط منفردة
لم يعد الدولار قادراً على لعب دوره التاريخي دون منافسة. التوترات السياسية الأميركية الداخلية، والضغوط على الاحتياطي الفيدرالي، وحالة الاستقطاب السياسي، بالإضافة إلى توسع العجز الفيدرالي، كلها عوامل جعلت البنوك المركزية تنظر إلى الذهب كضمانة مستقلة عن الضغوط السياسية.
2. الحاجة إلى أصل قادر على الصمود أمام التضخم
التضخم في العقد الأخير أصبح جزءاً أساسياً من المشهد الاقتصادي الدولي. وحتى حين تراجعت معدلاته، ظل الخوف من موجات جديدة قائماً. الذهب، بصفته أصلاً غير مرتبط بسعر الفائدة، يحتفظ بقدرته على حماية القيمة.
3. التحوط الجيوسياسي
التحولات في العلاقات الدولية، من الحرب التجارية الأميركية الصينية، إلى التوترات في شرق أوروبا، مروراً بإعادة رسم التحالفات العالمية، جعلت من الذهب أداة تحوط لا غنى عنها.
تقرير “ماركي” في نوفمبر 2025 الذي شارك فيه أكثر من 900 مستثمر مؤسسي كشف أن 70 في المئة من المشاركين يتوقعون ارتفاع الذهب في 2026، وأن 36 في المئة يرون أنه سيكسر الخمسة آلاف دولار خلال العام نفسه. هذه النسبة المرتفعة تعكس إيماناً راسخاً بأن القوى الدافعة للذهب ليست مؤقتة، بل بنيوية.
قوة الأسواق الآسيوية وصعود الصين كلاعب مركزي
الصين اليوم هي اللاعب الأبرز في سوق الذهب العالمي. ليست فقط أكبر مستهلك للذهب، بل واحدة من أكبر المشترين على مستوى البنوك المركزية. بكين تعيد تشكيل احتياطياتها بطريقة استراتيجية، تبني تراكماً ذهبياً يعزز استقلالها المالي، ويحميها من تقلبات العلاقات مع الولايات المتحدة.
السوق الصيني لم يعد تابعاً للتقلبات الغربية. بل أصبح في بعض الأحيان القائد الفعلي للتحركات. عندما ترتفع مشتريات الصين، ترتفع الأسعار عالمياً. وعندما تخفف من وتيرة الشراء، تهدأ الأسواق مؤقتاً.
خلال 2025، قادت الصين موجة شراء واسعة، ما رفع مستويات الذهب إلى ما فوق الأربعة آلاف دولار. لكن الأهم هو أن بكين ليست بصدد إيقاف هذه الإستراتيجية قريباً. فاقتصادها الكبير، وتحدياته الداخلية والخارجية، يدفعها نحو المزيد من التحوط.
ترامب، الفيدرالي، ومفهوم الاستقلال النقدي
أحد أكثر العوامل تأثيراً في توقعات ارتفاع الذهب هو التوتر بين البيت الأبيض والاحتياطي الفيدرالي. كان لعودة ترامب إلى السلطة تأثير واضح على السياسة النقدية الأميركية. فانتقاداته المتكررة لمجلس الاحتياطي خلقت حالة من القلق في الأسواق. حين تتعرض استقلالية الفيدرالي للتهديد، تصبح أسواق الأموال أقل يقيناً. والذهب يستفيد مباشرة من هذا التوتر.
بنك غولدمان ساكس توقع أن يصل الذهب إلى حدود الخمسة آلاف دولار إذا استمرت الضغوط على الفيدرالي. وبالنظر إلى المسار السياسي في الولايات المتحدة، يبدو هذا السيناريو وارداً.
المستثمرون المؤسسيون يعيدون رسم المحافظ الاستثمارية
شهدت صناديق الاستثمار المتداولة في الذهب تدفقات غير مسبوقة. المستثمرون المؤسسيون الذين عادة ما يفضلون أدوات أكثر استقراراً، بدأوا يرفعون حصة الذهب في محافظهم. وهذا يشير إلى أن الرؤية طويلة المدى لصعود المعدن ليست حكراً على البنوك المركزية، بل تشمل الفاعلين الرئيسيين في الأسواق المالية الغربية والآسيوية على حد سواء.
ما يميز الدورة الحالية هو وجود إجماع نادر بين صناديق التحوط، البنوك المركزية، والمستثمرين الأفراد، على أن الذهب يتحرك ضمن مسار صاعد طويل.
دول الخليج بين الاستفادة والتحدي
تعيش دول الخليج لحظة اقتصادية نادرة. فصعود الذهب يمنح المنطقة فرصة لتعزيز الاحتياطيات، وتنويع الأصول، والاستفادة من الفوائض المالية في أعوام الاستقرار النفطي. ومع ذلك، تواجه المنطقة تحدياً مزدوجاً:
1. كيف تحافظ على توازن احتياطياتها في ظل تراجع الدولار؟
تتضمن الاحتياطيات الخليجية تقليدياً نسبة عالية من الدولار وسندات الخزانة الأميركية. ارتفاع الذهب يشكل فرصة لإعادة التوازن، لكن التحول يحتاج إلى رؤية دقيقة كي لا يحدث ارتباكاً في إدارة السيولة.
2. كيف تبني صناديقها السيادية استراتيجيات طويلة المدى؟
الصناديق السيادية الخليجية، التي تعد من الأقوى عالمياً، تنظر إلى الذهب كجزء من استراتيجية تحوط سيادي، وليس فقط كاستثمار.
السيناريوهات المتوقعة لعام 2026
من خلال قراءة المؤشرات الحالية، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة لمسار أسعار الذهب خلال 2026:
السيناريو الأول: الصعود القوي
يتحقق هذا السيناريو إذا تواصلت التوترات بين واشنطن والفيدرالي، واستمرت الصين في زيادة احتياطياتها، وبدأ الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة. في هذه الحالة، سيصبح حاجز الخمسة آلاف دولار مستوى منطقياً.
السيناريو الثاني: الصعود المعتدل
يرجح هذا السيناريو إذا استمرت القوى الداعمة للذهب لكن بوتيرة أقل. قد يرتفع السعر بنسبة بين 10 و15 في المئة، ويبقى قرب 4600 دولار.
السيناريو الثالث: الاستقرار
هذا السيناريو هو الأقل احتمالاً، ويتطلب هدوءاً سياسياً واقتصادياً عالمياً، مع توقف البنوك المركزية عن شراء الذهب. وهي شروط يصعب تحققها في عالم يشهد حالة عدم يقين مزمن.
الدروس الاستراتيجية للدول العربية
عالم 2026 يفرض على الدول العربية، خصوصاً الاقتصادية الكبرى، التفكير بعمق في مستقبل الاحتياطيات. أهم الدروس:
- تنويع الأصول ضرورة وليست رفاهية.
- الاعتماد على الدولار وحده لم يعد خياراً آمناً.
- تعزيز الحصة الذهبية في الاحتياطيات يحمي من الاضطراب السياسي العالمي.
- بناء استراتيجيات استثمار طويلة المدى أكثر أهمية من متابعة التغيرات اليومية في الأسعار.
الذهب لم يعد مجرد معدن بل مؤشر دولي للقوة
ارتفعت قيمة الذهب بنسبة تقارب 59 في المئة خلال 2025، لتثبت أنه أحد أفضل الأصول أداءً في العالم. هذا الأداء ليس نتيجة مضاربات قصيرة. بل يعكس تحولات كبرى في شكل النظام المالي العالمي. فالعالم الذي عرفناه بعد الحرب العالمية الثانية، حيث الدولار مركز المنظومة، والسندات الأميركية مرجع الاستقرار، يمر الآن بمرحلة تغيير عميق.
في هذه البيئة الجديدة، يصبح الذهب مؤشراً للأمان، وقياساً للثقة، وأداة استراتيجية للدول التي تبحث عن مرونة مالية في عالم مضطرب.
عالم على أعتاب نظام مالي جديد
من ينظر إلى ارتفاع الذهب كحدث عابر يخطئ قراءة المرحلة. فالمشهد العالمي يتغير بأدواته، وتحالفاته، ومحركاته، وميزانه الاقتصادي. ومع كل تحول سياسي أو اضطراب مالي أو تغير في موازين القوة، يجد الذهب مجالاً جديداً للصعود.
العام 2026 لن يكون عاماً عادياً لأسواق الذهب. بل سيكون عاماً مفصلياً يعيد رسم خريطة الثروة والاحتياطيات، وقد يكون بداية دورة تاريخية جديدة تصنع نظاماً مالياً مختلفاً عن ذلك الذي عرفه العالم خلال سبعة عقود مضت.
الذهب لا يرتفع لأنه معدن ثمين فقط. بل لأنه أصبح لغة أخرى للثقة. وفي عالم يتسارع نحو المجهول، تبقى هذه اللغة الأكثر وضوحاً.