غير مصنف

 النظام المالي العالمي على مفترق طرق – هل يفقد الدولار هيمنته؟

يشهد العالم اليوم لحظة فارقة في تاريخ النظام المالي الدولي، لحظة تتجاوز كونها مجرد سجال اقتصادي لتصبح صراعاً استراتيجياً حول هوية القرن الحادي والعشرين. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية ظل الدولار الأميركي هو العمود الفقري للاقتصاد العالمي، عملة الاحتياط الأولى، وأداة التسعير والتبادل التي لا غنى عنها في التجارة الدولية وأسواق المال. لكن النقاشات المتصاعدة حول مستقبل الدولار، وما إذا كان قادراً على الحفاظ على موقعه المهيمن، تكشف أن هذا الدور لم يعد محسوماً كما كان من قبل.

في قلب هذه النقاشات تقف قضايا كبرى: الدين الأميركي المتضخم الذي تجاوز حاجز الـ 35 تريليون دولار، التحديات التنظيمية التي تواجه العملات المشفرة، عودة الذهب إلى دائرة الضوء كأصل استراتيجي، وصراع القوى الكبرى على إعادة صياغة قواعد اللعبة المالية. ومع كل تصريح روسي أو صيني أو حتى أوروبي يشكك في استدامة الهيمنة الأميركية، تتأجج الأسئلة: هل يقترب العالم من عصر ما بعد الدولار؟ وهل يمكن أن ينهض بديل حقيقي لهذا النظام الراسخ منذ نحو ثمانية عقود؟

الدولار بين الماضي والحاضر

لفهم حجم الرهانات القائمة اليوم، يجب التذكير بالأساسيات. فبعد الحرب العالمية الثانية، ومع اتفاقية “بريتون وودز” عام 1944، تم تثبيت الدولار كمرجعية مالية عالمية، مدعوماً بربطه بالذهب. ورغم فك هذا الارتباط في سبعينيات القرن الماضي، فإن هيمنة الدولار لم تتراجع، بل ازدادت بفضل قوة الاقتصاد الأميركي وعمق أسواقه المالية وقدرته على جذب رؤوس الأموال. أصبح الدولار ليس مجرد عملة، بل رمزاً للقوة الأميركية.

اليوم، لا تزال أكثر من 60% من الاحتياطيات النقدية العالمية مقومة بالدولار، وأكثر من 80% من المعاملات التجارية تمر عبره. لكن في مقابل هذه الأرقام الصلبة، يتنامى القلق بشأن الدين الأميركي المتصاعد، والسياسات المالية التي تبدو في نظر كثيرين غير مستدامة. هذا القلق يغذي السرديات المنافسة ويمنح خصوم واشنطن مادة دعائية وسياسية يستخدمونها في السجال حول مستقبل النظام المالي العالمي.

الدين الأميركي.. الرقم الذي لا يطمئن

الولايات المتحدة اليوم تواجه عبئاً تاريخياً من الديون بلغ 35 تريليون دولار. هذا الرقم لا يمثل مجرد التزام مالي، بل يعكس عقوداً من العجز المزمن في الموازنات، وحروب مكلفة، وحزم تحفيز اقتصادي ضخمة كان آخرها لمواجهة تداعيات جائحة كورونا. ووفق تقديرات مكتب الميزانية بالكونغرس، فإن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ستواصل الارتفاع لتصل إلى 118% خلال العقد المقبل.

قد يقول البعض إن الدين الأميركي ليس مشكلة ما دام العالم مستعداً لشراء سندات الخزانة الأميركية. لكن النقاش هنا أعمق: ماذا لو بدأت الثقة في الدولار تهتز؟ ماذا لو بحثت الاقتصادات الكبرى عن بدائل أكثر أماناً؟

الذهب يعود إلى الواجهة

لطالما اعتُبر الذهب ملاذاً آمناً في أوقات الأزمات. الولايات المتحدة نفسها تملك أكبر احتياطيات من الذهب في العالم، تقدر بنحو 8,800 طن. المفارقة أن هذه الكميات مسجلة في دفاتر الخزانة الأميركية بسعر تاريخي يبلغ 42 دولاراً للأونصة، بينما يبلغ سعر السوق حالياً نحو 3,600 دولار. هذه الفجوة الهائلة تفتح الباب أمام نظريات تقول إن مجرد إعادة تقييم الذهب رسمياً يمكن أن يولّد أصولاً محاسبية ضخمة تخفف شكلياً من عبء الدين.

لكن تطبيق مثل هذه الفكرة يتطلب قرارات سياسية وتشريعية معقدة، فضلاً عن أنه قد يفتح باباً لجدل واسع حول التلاعب في الأسواق. ومع ذلك، فإن عودة الذهب إلى قلب النقاشات تعكس رغبة بعض القوى في إعادة الاعتبار إلى الأصول الصلبة بعيداً عن العملات الورقية التي تنهكها الديون.

العملات المشفرة.. تهديد أم أداة أميركية جديدة؟

من جهة أخرى، تبرز العملات المشفرة كأحد أكثر الملفات إثارة للجدل. روسيا تتهم الولايات المتحدة بالسعي لاستخدام هذه العملات للتخلص من ديونها، عبر ما يشبه إعادة صياغة قواعد النظام المالي. لكن الواقع، كما يشير خبراء الأسواق، يبدو مغايراً. فالسياسة الأميركية الرسمية لا تسعى لإضعاف الدولار، بل لتعزيز هيمنته عبر ربط العملات الرقمية المستقرة بالدولار الأميركي.

قوانين تنظيمية مثل STABLE و GENIUS تُلزم مصدري العملات المستقرة بشراء سندات خزانة أميركية كغطاء، وهو ما يزيد الطلب على الدولار ويعزز مكانته. بمعنى آخر، بدلاً من أن تكون العملات المشفرة تهديداً مباشراً، فإنها قد تتحول إلى أداة جديدة لتوسيع نفوذ الدولار عالمياً.

لكن في المقابل، لا يمكن إغفال حقيقة أن العملات المشفرة بطبيعتها تفتح الباب أمام نماذج مالية بديلة لا تخضع للسيطرة المركزية، وهو ما يشكل مصدر قلق دائم لواشنطن وحلفائها. لذلك يبقى الموقف الأميركي مزدوجاً: الاستفادة من الفرص، مع محاولة تقليل المخاطر.

الدعاية الروسية.. بين الحقيقة والتوظيف السياسي

لا يمكن فصل النقاشات الجارية عن سياق الصراع الجيوسياسي الأوسع. روسيا، التي تواجه عزلة مالية خانقة بسبب العقوبات الغربية منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، لها مصلحة مباشرة في التشكيك في الدولار. تصريحات مستشاري الكرملين عن “خطط أميركية للتلاعب بالذهب والعملات المشفرة” تحمل في طياتها بعداً دعائياً واضحاً، يهدف إلى ضرب الثقة في النظام الذي لا تزال الولايات المتحدة تتصدره.

لكن حتى لو بدت هذه التصريحات مبالغاً فيها، فإنها تلتقط خيطاً حقيقياً: هناك بالفعل حالة قلق عالمية من استمرار الاعتماد المفرط على الدولار، ورغبة متنامية لدى تكتلات مثل “بريكس” ومنظمة شنغهاي للتعاون في بناء بدائل.

هل من بدائل حقيقية؟

السؤال الأهم: هل هناك بديل جاهز ليحل محل الدولار؟

  • اليورو: رغم أنه ثاني أكبر عملة احتياطية، إلا أن ضعف التكامل المالي في الاتحاد الأوروبي، والتباينات بين اقتصادات الشمال والجنوب، تحد من قدرته على منافسة الدولار.
  • اليوان الصيني: يملك زخماً صاعداً مع صعود الصين كقوة اقتصادية كبرى، لكن قيود بكين على حركة رؤوس الأموال وعدم شفافية النظام المالي الصيني يحدان من ثقة المستثمرين العالميين.
  • العملات المشفرة: تمتاز باللامركزية والمرونة، لكنها متقلبة بشدة وتفتقر إلى الدعم الحكومي، ما يجعلها غير مؤهلة حالياً لتكون عملة احتياطية.
  • الذهب: رغم مكانته التاريخية، إلا أنه ليس عملياً كعملة للتبادل التجاري واسع النطاق.

من هنا، يبدو أن البديل الأقرب ليس عملة واحدة، بل نظام متعدد الأقطاب المالية، حيث يتراجع دور الدولار تدريجياً من موقع الهيمنة المطلقة إلى موقع الصدارة بين عدة لاعبين.

الاستراتيجية الأميركية.. إدارة لا انكفاء

رغم كل الانتقادات والاتهامات، تملك الولايات المتحدة أوراق قوة يصعب تجاوزها:

  • أكبر اقتصاد في العالم وأكثره ابتكاراً.
  • أعمق أسواق مالية وأكثرها سيولة.
  • قوة عسكرية وسياسية تضمن بقاء الثقة في مؤسساتها.

إضافة إلى ذلك، فإن قدرة واشنطن على إصدار الدولار بلا حدود تقريباً، ثم إقناع العالم بقبوله، تظل ميزة لا تضاهى. حتى لو ارتفع الدين إلى مستويات قياسية، فإن الطلب العالمي المستمر على الدولار وسندات الخزانة يوفر مظلة أمان مؤقتة.

لكن هذه المظلة ليست أبدية. فكلما تراكمت الديون وتزايدت الشكوك، زاد خطر حدوث تحولات مفاجئة في الثقة. وهذا ما يفسر لماذا تعمل واشنطن على استباق المستقبل عبر دمج العملات المستقرة في نظامها، وإعادة تأكيد مركزية الدولار في كل أداة مالية جديدة تظهر.

عالم على حافة تحول

النظام المالي العالمي يقف اليوم على مفترق طرق. صحيح أن الدولار لا يزال في موقع الصدارة، لكن المنافسة لم تعد غائبة. الصين وروسيا، تكتلات مثل بريكس، وحتى أسواق العملات المشفرة، كلها تعكس بحثاً دؤوباً عن بدائل. وفي المقابل، تعمل الولايات المتحدة على استخدام كل أداة ممكنة للحفاظ على هيمنتها، من الذهب إلى العملات الرقمية المنظمة.

القضية إذاً ليست مجرد أرقام أو مزاعم روسية، بل جزء من صراع أشمل حول من يكتب القواعد الجديدة للاقتصاد العالمي. ومن ينجح في ذلك لن يتحكم فقط في الأسواق والديون، بل في مسار السياسة الدولية برمتها.

قد لا نشهد قريباً نهاية هيمنة الدولار، لكننا بالتأكيد دخلنا مرحلة جديدة: مرحلة إعادة التفاوض على شكل النظام المالي العالمي. والسؤال الكبير الذي سيبقى مفتوحاً أمام القادة والمستثمرين والاقتصاديين هو: هل نحن أمام إصلاح تدريجي للنظام القائم، أم أننا نقترب من لحظة قطيعة تاريخية تضع العالم على مسار جديد بالكامل؟

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *