الذهب لا يُصدأ، والكويت لا تتراجع.
في صباح هذا اليوم، شهدت صالات أرض المعارض الدولية أضخم افتتاح في تاريخ الفعاليات الاقتصادية في البلاد، مع انطلاق الدورة الثالثة والعشرين من “معرض الذهب والمجوهرات العالمي”، والذي بدا، منذ لحظة افتتاحه، وكأنه احتفال وطني موسمي يُجسد التقاء الذوق الرفيع بالذكاء الاستثماري، والهوية الحضارية بالبعد العالمي.
الذهب يُعيد رسم خارطة الكويت الاقتصادية
منذ عقود، كان يُنظر إلى المجوهرات باعتبارها مقتنيات شخصية وجمالية، تُقدَّم في المناسبات وتُختزل في رمزية الثراء. أما اليوم، ومن أرض الكويت تحديدًا، فإن الذهب بات يُكتب بلغة السوق والتحولات الكبرى؛ يُشار إليه كأصل استثماري، ومؤشر ثقافي، وسوق عالمي حرّ مفتوح على مصراعيه أمام اللاعبين من آسيا، أوروبا، الخليج، والولايات المتحدة.
المعرض، الذي تنظمه شركة معرض الكويت الدولي، يُقام هذا العام على مساحة تتجاوز 13,000 متر مربع، ويجمع أكثر من 400 جهة عارضة من 17 دولة، ما يجعله النسخة الأضخم في تاريخه، ليس فقط من حيث الحجم، بل من حيث التوجه أيضاً. إذ باتت الدورة الحالية تُعبّر عن اقتصاد الذهب في زمن ما بعد الاضطرابات النقدية، وعن رغبة الأسواق الخليجية في أن تتحول إلى مراكز ثقل في تجارة المعادن الثمينة.
من المجوهرات إلى الاستراتيجية: كيف تفكر الكويت؟
خلال تجوالنا في المعرض، بدا جليًا أن الكويت، ممثلة بمؤسساتها الراعية، باتت تنظر إلى الذهب كمكوّن من مكونات قوتها الناعمة والاقتصادية على السواء. فالدولة التي عُرفت بأسواقها المالية الصلبة، وبجاذبيتها للمستثمرين، قررت أن تضع المجوهرات على خارطة السياسة الاقتصادية، لا باعتبارها سلعة للعرض، بل كقطاع منتج له ما بعده.
منصات العرض لم تكن مجرد طاولات بلورية، بل نماذج اقتصادية قائمة بذاتها، تعكس رؤى أصحابها في التصميم، والإنتاج، والتوزيع، والاستثمار. وقد لاحظنا اهتمامًا غير مسبوق من روّاد الأعمال الكويتيين الشباب، الذين حضروا ليس كمشترين أو متفرجين، بل كمشاركين، صانعين، ومبدعين. بعضهم قدّم تصاميم مستوحاة من الإرث الكويتي البحري، وآخرون دمجوا بين الذهب والذكاء الاصطناعي لإنتاج مجوهرات ذكية قابلة للتتبع والتخصيص.
الأسماء الرنّانة تصنع الحدث… لكن الجمهور هو البطل
تزاحمت أسماء الشركات الراعية للمشاركة في رسم ملامح النسخة الأضخم. لكن ما لفت النظر فعلًا هو التناغم الفريد بين تنوع العارضين وتنوع الزوار، حيث كان الحضور اليوم يتجاوز توقعات اللجنة المنظمة، ليصل، وفقًا للتقديرات الأولية، إلى آلاف الزائرين في الساعات الأولى.
العائلات حضرت بكثافة. المستثمرون الدوليون دخلوا من الأبواب الجانبية بتذاكر خاصة. أما وسائل الإعلام، فاحتلت شرفات العرض وكأننا أمام حدث سياسي عالمي، لا مجرد معرض للذهب.
الاقتصاد السياسي للذهب: ما لا يُعرض في الواجهة
رغم أن بريق المجوهرات يسرق الأضواء، إلا أن وراء الكواليس تجري مفاوضات من نوع آخر. تجار الذهب من بلدان أخرى حضروا لإعادة ترتيب خطوط التوريد الإقليمي، فيما يسعى مصنعو الذهب لإيجاد منافذ جديدة بعد سنوات من الركود الاقتصادي. وفي المقابل، تبحث شركات خليجية عن عقود تصدير طويلة الأمد لمتاجر التجزئة الأوروبية.
الكويت، بهدوئها المعتاد، توفر المساحة، والأمان، والسمعة الطيبة لإنجاز هذه التفاهمات. ومن هنا، فإن المعرض لا يُقرأ فقط كفعالية موسمية، بل كموقع جيو-اقتصادي وسط تقلبات سوقية حادة تشهدها أسعار الذهب عالميًا.
إدارة المعرض… بين النظام والاحترافية
بإدارة التسويق والمبيعات في شركة معرض الكويت الدولي، أُدير الحدث بكفاءة عالية، تظهر في كل التفاصيل، من تنظيم الدخول، إلى توزيع الأجنحة، إلى ضبط الإضاءة والموسيقى، والرسائل الإعلامية المصاحبة. في الوقت الذي يتوقع فيه أن تكن هذه الدورة ستكون علامة فارقة في تاريخ الكويت المعارض، وربما في تاريخ تجارة المجوهرات في الشرق الأوسط بأكمله.
كما لا ننسى توجيه الشكر إلى الجهات الرسمية: الإدارة العامة للجمارك، إدارة المعادن الثمينة بوزارة التجارة والصناعة، ووزارة الداخلية، لدورهم الحيوي في ضمان سلامة وسلاسة سير الفعاليات.
التحدي الحقيقي
التحدي الحقيقي يكمن في ترجمة هذا الزخم المؤقت إلى بنية دائمة، تُثمر في صورة صناعات كويتية جديدة في مجال الذهب، وتُفتح بها أبواب التصدير، وتُخلق بها فرص عمل، وتُبنى بها شراكات دولية طويلة الأجل.
حين يلتقي الذهب بالأمل
الكويت اليوم ليست فقط منصة للعرض، بل حاضنة للفرص. معرض الذهب والمجوهرات لهذا العام، لا يُمكن قراءته خارج السياق الاقتصادي والسياسي لما تمر به المنطقة والعالم. في زمن تقلّب فيه العملات، واضطربت فيه الأسواق، يعود الذهب ليؤكد أنه الأصل الأصدق، وأن الكويت، بفضل عقولها ومبادراتها، قادرة على أن تحوّل معرضًا سنويًا إلى لحظة مفصلية في قصة نهوض اقتصادي جديد.
في الذهب سرٌ لا تفهمه الأسواق فقط، بل تستشعره الحضارات.
وإذا كانت الدورة الحالية قد بدأت ببريق عالٍ، فإن ما سيُكتب عنها بعد ختامها قد يكون أشد لمعانًا… فقط إن أحسنت الكويت استثمار هذه اللحظة الذهبية.