غير مصنف

النفط يتماسك والذهب يتراجع

رهانات متناقضة على التجارة العالمية

في خضم عالم لا يفتأ يتأرجح بين أزمات جيوسياسية متصاعدة وتقلبات اقتصادية غير مسبوقة، يقف الاقتصاد العالمي مجددًا أمام منعطف حرج، تتقاطع عنده خيوط السياسة النقدية والقرارات التجارية مع حركة أسعار السلع الاستراتيجية وعلى رأسها النفط والذهب.

الأسبوع الجاري شهد ما يمكن وصفه بـ”هدوء ما قبل العاصفة” في أسواق الطاقة والمعادن الثمينة. فعلى الرغم من تمسك أسعار النفط بمكاسب محدودة بعد بلوغها أدنى مستوياتها في أربع سنوات، ورغم التراجع الملحوظ في أسعار الذهب، إلا أن الصورة الأكبر تكتنز في طياتها مؤشرات أعقد بكثير من مجرد ارتفاع أو انخفاض في سعر البرميل أو الأونصة.

نفط يتنفس تحت الماء: مؤشرات على تحوّل تدريجي

ارتفع خام برنت إلى 62.47 دولارًا للبرميل، وزاد خام غرب تكساس الوسيط إلى 59.52 دولارًا، وهي أرقام لا تزال تسبح على مقربة من القاع النفسي الذي لامساه في الأسابيع الأخيرة. هذا الارتفاع الطفيف لم يأتِ نتيجة انتعاش في الطلب أو نقص في المعروض، بل نتيجة مراهنات السوق على احتمال عودة الدفء إلى العلاقات التجارية بين واشنطن وبكين، مدعومة ببعض الإشارات على تراجع في الإنتاج الأميركي.

في الجوهر، لا تزال أساسيات السوق النفطية هشة. فقرار تحالف “أوبك بلس” بتسريع وتيرة زيادة الإنتاج قبل أسابيع شكّل صدمة للأسواق التي كانت تعوّل على انضباط العرض لضمان توازن الأسعار. جاءت هذه الزيادة في لحظة لم يكن فيها الطلب على النفط في أحسن أحواله، وسط تباطؤ اقتصادي عالمي وتضييق مستمر في السياسة النقدية.

رسالة مزدوجة من أوبك بلس

قد يرى البعض في خطوة “أوبك بلس” محاولة للضغط على المنتجين خارج التحالف، وتحديدًا منتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة، الذين يعانون من ارتفاع التكاليف وتقلص هوامش الربحية. غير أن الرسالة التي وصلت للأسواق كانت مزدوجة، ومشحونة بالمخاوف من أن يكون التحالف قد تخلى فعليًا عن سياسة الدفاع عن الأسعار، مفضلاً الحفاظ على الحصص السوقية بأي ثمن.

وفي ذات السياق، كشف تقرير لمعهد البترول الأميركي عن تراجع في مخزونات الخام بواقع 4.5 ملايين برميل، وهو ما قد يعكس بداية لمرحلة إعادة التوازن، لكنه يظل مؤشراً هشًا ما لم تترافق هذه الأرقام مع تحسن جوهري في مستويات الطلب العالمي.

الصين والولايات المتحدة: عودة الحديث عن الحوار

في لحظة بدت فيها الأسواق وكأنها استسلمت للتشاؤم، جاءت الأنباء عن استعداد الولايات المتحدة والصين لاستئناف المحادثات التجارية كنسمة خفيفة في صيف متجهم. إلا أن التفاؤل لم يبلغ حدّ الانفراج؛ فقد أشار خبراء “آي إن جي” بوضوح إلى أن “تحسن معنويات السوق لا يكفي لتحسين التوقعات، ما لم تُتخذ خطوات عملية لتخفيف الرسوم الجمركية”.

إذًا، ما نراه ليس أكثر من مؤشرات أولية، رهنٌ بتطورات غير مضمونة، لا سيما في ظل إدارة أميركية مقبلة على موسم انتخابي حاسم، واستراتيجية صينية لم تتزحزح قيد أنملة عن مبادئها في التفاوض المتأنّي والتدريجي.

الذهب يتخلى عن بريقه: عندما تهجر الأسواق الملاذات الآمنة

على الجانب الآخر من المشهد، يبدو أن الذهب -ذلك المعدن الذي طالما حمل صفة “الملاذ الآمن” وقت الأزمات- يعيش مرحلة شك في هويته. فبعد أن قفز بنحو 3% في الجلسة السابقة، انخفض بنسبة 1.21% في المعاملات الفورية، مسجلًا 3388.5 دولارًا للأوقية، فيما تراجعت العقود الأميركية الآجلة إلى 3397.70 دولارًا.

الهبوط الأخير لم يكن نتيجة ضعف في أساسيات الذهب ذاته، بل انعكاس مباشر لتحول المزاج العام في الأسواق نحو الإقبال على المخاطرة، مدفوعًا بالتفاؤل الحذر بإمكانية التوصل إلى اتفاق تجاري. وكما أوضح إيليا سبيفاك من “تيستي لايف”، فإن “التحرك العام صوب الإقبال على المخاطرة يعكس تفاؤلًا مشروطًا، لكنه كافٍ لتقويض الطلب على أصول الملاذ الآمن”.

ترقب سياسة الفيدرالي: قراءة في صمت مقصود

تتجه الأنظار اليوم إلى مجلس الاحتياطي الفيدرالي، حيث تجتمع لجنة السوق المفتوحة لمراجعة السياسة النقدية الأميركية. التوقعات تشير إلى إبقاء أسعار الفائدة على حالها، في مسعى واضح للحفاظ على أكبر قدر ممكن من المرونة. ولكن ما يلفت النظر هو أن الفيدرالي لا يزال مترددًا في الكشف عن أوراقه، مكتفيًا برسائل مبطنة تعكس حيرة المؤسسة حول ما قد تعنيه الحرب التجارية بالنسبة للنمو والتضخم.

في واقع الأمر، هذه الاستراتيجية ليست جديدة. فمنذ أن بدأ الفيدرالي دورة التشديد النقدي، وهو يتعامل مع الأسواق كمن يسير على حبل مشدود. كل عبارة تصدر من رئيسه جيروم باول تُفكك وتُحلل وتُفسر بوصفها دليلاً على نوايا مستقبلية، وهو ما يزيد من التوتر والتقلب.

عبر المنظور الأوسع: لعبة التوازنات المعقدة

إذا نظرنا إلى الصورة الكاملة، فإن ما يحدث في أسواق النفط والذهب ليس مجرد انعكاس لعوامل آنية، بل هو تعبير عن لعبة توازنات كبرى، يتداخل فيها الاقتصاد بالسياسة، والمال بالأمن، والمضاربات بالحقائق. فالسوق العالمية اليوم تحاول أن توازن بين رغبتها في النمو وخشيتها من التضخم، بين تطلعها لفتح الأسواق وخوفها من الانكشاف.

ولا يقتصر هذا التوازن على الأسواق وحدها. فالدول الكبرى، من واشنطن إلى بكين، ومن بروكسل إلى موسكو، تجد نفسها في سباق محموم لإعادة تعريف قواعد اللعبة الجيوسياسية. فكلما اقتربنا من عقد اتفاق تجاري، اندلعت أزمة جيوسياسية جديدة، وكلما لاحت في الأفق علامات الانتعاش، جاءت البيانات لتؤكد هشاشته.

شركات الطاقة تحت المجهر: التكيف مع المجهول

ومن أبرز ضحايا هذه المرحلة الانتقالية، شركات الطاقة الأميركية، التي بدأت تعلن تباعًا عن تخفيضات في أنشطة الحفر، متأثرة بتراجع الأسعار وتقلب السياسات. هذه التخفيضات قد تشكّل في المدى القصير عامل توازن، لكنها في المدى البعيد تثير تساؤلات حول مستقبل الاستثمار في قطاع ما زال يشكل شريانًا رئيسيًا للاقتصاد الأميركي.

فما الذي يعنيه هذا التراجع في الحفر؟ هل هو اعتراف ضمني بأن زمن الطفرة الصخرية قد ولّى؟ أم أنه مجرد استراحة مقاتل في انتظار تغير السياسات أو تحسن الأسعار؟ في الحالتين، يظل مستقبل النفط الأميركي رهينًا ليس فقط بالأسعار، بل بموقف الإدارة الأميركية تجاه الطاقة النظيفة، وبتوجهات المستثمرين الذين باتوا يضعون البصمة الكربونية على رأس أولوياتهم.

من يسكن مستقبل الأسواق؟

ختامًا، لا يمكن للمتابع الحصيف إلا أن يدرك أن ما نشهده ليس سوى بدايات موجة جديدة من التحولات الكبرى. فالنفط لم يعد وحده الحاكم المطلق لأسواق الطاقة، والذهب لم يعد الحصن الأخير في وجه الاضطرابات، والسياسات النقدية لم تعد صمّام الأمان الذي يطمئن الأسواق.

نحن في مرحلة تتطلب قراءة أعمق، وجرأة أكبر، وقيادة سياسية واقتصادية لا تكتفي برد الفعل، بل تبادر بصياغة أجندة عالمية جديدة، تتجاوز الصراعات التجارية والمنافسات الأحادية، نحو شراكة إنسانية واقتصادية تتسع للجميع.

وإلى أن تنجلي هذه الرؤية، سيبقى العالم الاقتصادي يتقلب بين مدّ وجزر، بين تفاؤل خجول وتشاؤم عقلاني، وبين رغبة في الاستقرار وواقع يرفض السكون.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *