غير مصنف

التحولات الاقتصادية في الخليج العربي

الخليج لاعب إقليمي أساسي

بين تعقيدات المشهد الاقتصادي العالمي، وتغير موازين القوى التجارية والتكنولوجية، يبرز الخليج العربي كلاعب إقليمي يخطو بخطى واثقة في عالم مليء بالتحديات والتحولات. ففي التقرير الأخير الصادر عن صندوق النقد الدولي، يسلّط الدكتور جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، الضوء على ثلاث مسارات استراتيجية ستعيد تشكيل الاقتصاد العالمي والإقليمي: التحول في الاقتصاد العالمي، الثورة الرقمية، وتحول التنمية الاقتصادية في المنطقة. في هذا السياق، تصبح دول الخليج محط الأنظار، ليس فقط لقدرتها على الصمود، بل أيضاً لدورها الطموح في رسم معالم النظام الاقتصادي القادم.

التحول في الاقتصاد العالمي

لم يعد الاقتصاد العالمي كما كان قبل عقد من الزمان، فقد أدت الحروب، والجوائح، والتوترات التجارية، إلى خلخلة سلاسل التوريد ورفع معدلات التضخم على مستوى العالم. ومع عودة السياسات الحمائية، وفرض رسوم جمركية جديدة من جانب الولايات المتحدة، تتعمق حالة عدم اليقين في الأسواق العالمية.

هنا يبرز الخليج، وتحديداً دول مجلس التعاون، كمحور استقرار نسبي وسط هذا الاضطراب. فبينما خفض صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى 2.6% في 2025، لا تزال دول الخليج قادرة على الحفاظ على معدلات نمو إيجابية، مستندة إلى صناديقها السيادية الضخمة، واحتياطاتها النقدية، وإصلاحاتها البنيوية المتقدمة.

غير أن هذا الاستقرار النسبي لا يعني الركون إلى الحاضر. فالدكتور أزعور يحذر من تداعيات غير مباشرة للرسوم الجمركية الأميركية، مثل تراجع الطلب العالمي على النفط، وتقلّب الأسواق المالية، مما قد يؤثر على موازنات دول تعتمد بشكل كبير على العوائد النفطية.

الثورة الرقمية والتحول التكنولوجي

يُعد الاقتصاد الرقمي نقطة انعطاف حاسمة في مستقبل الخليج، فإما أن يكون ركيزة للنمو المستدام أو يصبح بوابة للتهميش إذا لم يتم تبنيه بفعالية. وقد أدركت دول الخليج هذا التحدي مبكراً، فتسارعت الاستثمارات في البنية التحتية الرقمية، والحوسبة السحابية، والذكاء الاصطناعي، والتقنيات المالية.

المملكة العربية السعودية رفعت نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل إلى 36%، وهو ما يمثل تحولاً اجتماعياً واقتصادياً عميقاً. في الإمارات، أصبحت دبي نموذجاً عالمياً في المدن الذكية، بينما تستثمر قطر والبحرين في حاضنات الابتكار والشركات الناشئة.

يرى صندوق النقد أن هذه الخطوات لا تعزز فقط القدرة التنافسية بل تتيح أيضاً لدول الخليج أن تلعب دوراً ريادياً في الاقتصاد العالمي الجديد، من خلال تصدير المعرفة، واستقطاب الاستثمارات، وتوطين التكنولوجيا.

إعادة تعريف التنمية الاقتصادية

ربما يكون التحدي الأكبر هو الانتقال من اقتصاد ريعي يعتمد على النفط، إلى نموذج تنموي مستدام يحقق العدالة الاقتصادية والتماسك الاجتماعي. هنا يظهر الفارق بين دول الخليج ودول مثل لبنان أو سوريا أو مصر، التي تعاني أزمات اقتصادية مزمنة، إما بسبب غياب الإرادة السياسية للإصلاح، أو بسبب تعقيدات داخلية وخارجية.

يشدد أزعور على أن نجاح أي نموذج تنموي لا يقوم على التمويل الخارجي وحده، بل على عقد اجتماعي جديد يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، ويُرسخ مبادئ الشفافية والمساءلة. هذا ما تسعى إليه دول الخليج من خلال إعادة هيكلة منظومة الدعم، وتطوير التعليم، وتمكين المرأة، وخلق بيئات أعمال محفزة للمبدعين ورواد الأعمال.

مصر، على سبيل المثال، قطعت خطوات مهمة في تثبيت الاقتصاد الكلي، بدعم من صندوق النقد الدولي وشركاء إقليميين كالإمارات. ومع ذلك، تبقى الحاجة ملحة لتقليص الدين العام الذي يستهلك نصف الموازنة، وتسريع الإصلاحات الهيكلية.

أما لبنان، فإن غياب الإصلاحات الجذرية، واستمرار التنازع السياسي، يعيق أي اتفاق فعّال مع صندوق النقد، ما يجعل التعافي رهينة لحظة سياسية غير متوفرة حتى الآن.

موقع الخليج في خريطة الاقتصاد العالمي الجديد

ما يمنح الخليج فرصة فريدة هو موقعه الجيو-اقتصادي، وقدرته على بناء جسور تجارية مع آسيا الوسطى، ودول الآسيان، وأفريقيا، لتشكيل شبكات اقتصادية جديدة تتجاوز الهيمنة التقليدية للغرب.

يدعو أزعور إلى التفكير في استراتيجيات بديلة لتقليل الاعتماد على ممرات التوريد التقليدية، والاستثمار في تكامل بنى تحتية إقليمية رقمية، تسهل انتقال البيانات والخدمات، كما تسهل انتقال الطاقة النظيفة والسلع الصناعية.

الخلاصة: الخليج ليس مجرد ناجٍ من الأزمات، بل لاعب محوري في إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي. وإذا نجحت دوله في الاستفادة من التحولات الجارية، فإنها لا تصنع مستقبلها فحسب، بل تساهم في رسم معالم نظام اقتصادي جديد أكثر توازناً وشمولاً.

هذا الزمن هو زمن الجرأة والرؤية والقيادة، وزمن الخليج.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *