لم يكن تصريح الكويت بالترحيب بقرار الاتحاد الأوروبي رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا تصريحاً عابراً في نشرة أخبار أو سطراً في بيان بروتوكولي، بل كان بمثابة إشارة استراتيجية تعبّر عن تحول حقيقي في مقاربة دول الخليج لملف الشام الجريح. هذا القرار الأوروبي، والذي أعقبه إعلان أكثر دراماتيكية من واشنطن برفع العقوبات من جانبها، بدا وكأنه مفصل تاريخي يعيد فتح أبواب دمشق القديمة أمام قوافل جديدة من الاستثمار، ولكن هذه المرة من بوابات المال، لا من فوهات البنادق.
فبعد أكثر من عقد من الانغلاق الاقتصادي، باتت سوريا اليوم على مشارف انفتاح واعد، مدعوم برؤية إقليمية ودولية متقاطعة المصالح. وتقدّمت الكويت بخطى هادئة ولكن واثقة، لتمهّد أولى هذه العودة من خلال وفد اقتصادي رفيع المستوى، قاده بدر ناصر الخرافي، الرجل الذي لا يأتي عادةً إلى طاولة الاستثمار إلا إذا كانت الملفات التي أمامه تحمل طابعاً استراتيجياً بعيد المدى.
الخليج وسوريا: من السياسة إلى الاقتصاد
إن ما يجعل هذا التطور مختلفاً عن محاولات سابقة للانخراط الخليجي في الملف السوري هو التوقيت والدلالة. فأن تأتي هذه الخطوة بعد رفع العقوبات الأميركية والأوروبية، وتحديداً في أعقاب منتدى الاستثمار السعودي ـ الأميركي 2025، يعكس توجهاً مدروساً لاستثمار لحظة التوافق الدولي على فتح مسارات اقتصادية في سوريا، بعد سنوات من العزل.
الكويت، الدولة التي لطالما حافظت على اتزانها الدبلوماسي، تبدو اليوم كمن يقرأ تغيرات الريح قبل هبوبها. فالزيارة التي قادها الخرافي إلى دمشق لم تكن زيارة مجاملة، بل كانت ورشة عمل اقتصادية مصغرة، استعرض خلالها الوفد الكويتي فرص الاستثمار في البنية التحتية، وقطاع الاتصالات، والقطاع اللوجستي، وهي القطاعات التي تشكّل العمود الفقري لأي نهوض اقتصادي حقيقي.
“زين” وعودة الاتصالات إلى المشهد السوري
أحد أبرز ما دار في الكواليس كان الحديث عن نية مجموعة زين دخول السوق السورية، في خطوة قد تعني كسر احتكار شركتي “سيريتل” و”MTN” للاتصالات داخل البلاد. وإذا ما تم هذا الدخول بالشراكة مع جهات رسمية سورية أو برعاية دولية، فإننا أمام لحظة غير مسبوقة في تاريخ الاقتصاد السوري الحديث، لحظة يمكن فيها لشركة خليجية رائدة أن تُعيد رسم ملامح قطاع حيوي طالما كان مُغلقاً أمام المنافسة.
الخرافي، المعروف بعقليته الاستثمارية الحذرة ولكن الحاسمة، لا يتحرك اعتباطاً. الرجل الذي يقود مجموعة زين، والتي تُقدّر قيمتها السوقية بنحو 3.5 مليار دولار، لا يستثمر إلا حيث يرى إمكانية تحقيق أثر مزدوج: عائد مالي ملموس، وتأثير استراتيجي طويل الأمد. وهو ما يفسّر وجوده الشخصي في قصر الشعب بدمشق، ومشاركته المباشرة في بحث الملفات مع الرئيس السوري أحمد الشرع.
رفع العقوبات: لحظة مفصلية أم هدنة اقتصادية؟
الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في إحدى أكثر لحظات ولايته الثانية إثارة للجدل، أعلن من الرياض رفع العقوبات المفروضة على سوريا، بالتشاور مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. الخطوة التي استقبلتها دمشق بترحيب بالغ، وصفها مراقبون بأنها بداية “الصفقة الكبرى” في المشرق، حيث تُقدَّم إعادة الإعمار كجائزة للتوافق السياسي، ويُعاد ترتيب المشهد من جديد.
الولايات المتحدة أعلنت عبر وزارة الخزانة أنها بصدد إصدار التصاريح اللازمة لجلب استثمارات جديدة إلى سوريا، مع تعهدات غير رسمية بعدم ملاحقة الشركات التي تنشط في هذا السياق. وهذا يعني أن الشركات الخليجية، وفي مقدمتها الكويتيّة، ستجد نفسها في موقع متقدم للاستفادة من هذا الانفتاح، خاصة إذا تم ذلك تحت مظلة تنسيق إقليمي واضح.
الكويت: وسيط الثقة والمال
ما يجعل الكويت مؤهلة لأداء دور ريادي في هذه المرحلة، ليس فقط مكانتها المالية، بل أيضاً رصيدها من الثقة لدى جميع أطراف النزاع. لم تتورط الكويت في مستنقعات التنافس الجيوسياسي الحاد، ولم تنجر إلى مواجهات مباشرة، بل حافظت على دور الوسيط والعاقل. وهذا ما يجعل تحركها الاقتصادي اليوم محل ترحيب لا فقط من دمشق، بل أيضاً من العواصم المؤثرة دولياً.
الخرافي والعائلة: ذاكرة استثمارية تعود
من اللافت في هذا السياق، أن للعائلة الاقتصادية التي يقودها بدر الخرافي تاريخاً استثمارياً طويلاً في سوريا، يعود إلى ما قبل الحرب. صحيح أن بعض أصول العائلة قد تعرضت للحجز من قبل النظام السابق في 2019، ما أدّى إلى انسحاب جزئي حينها، إلا أن ذلك لم يُلغِ الروابط التي نسجت على مدى عقود.
وها هو الخرافي اليوم يعود من موقع القيادة التنفيذية، وبيده مفاتيح لفتح السوق السورية أمام رأس المال الخليجي، وربما الغربي لاحقاً، بشرط أن تتوفّر البيئة القانونية والمؤسساتية الملائمة.
الختام: استثمار في الاستقرار
إن إعادة سوريا إلى الخريطة الاقتصادية ليست مجرّد مشروع لإعادة الإعمار أو تحسين البنية التحتية، بل هو مشروع لإعادة تشكيل المنطقة بأسرها. فاستقرار سوريا اقتصادياً، هو ضمان لاستقرار المشرق سياسياً. وإن كان الخليج يطمح إلى دور محوري في القرن الحادي والعشرين، فإن الاستثمار في استقرار سوريا هو أحد مداخل ذلك الدور.
الكويت، عبر رسائلها الدبلوماسية وخطواتها الاستثمارية، ترسم معالم هذا الدور. وزيارة الخرافي ليست سوى أول الغيث، في مرحلة قد تشهد عودة تدريجية ولكن واثقة لرؤوس الأموال الخليجية إلى دمشق، على قاعدة المصالح المتبادلة، لا الانحيازات الصلبة.
وفي عالم يتغير بسرعة الضوء، فإن من يقرأ الاتجاهات قبل غيره، ويستثمر قبل الآخرين، هو من سيحصد الغد.