عندما نتحدث عن المعادن الثمينة، يتجه الانتباه فورًا إلى الذهب، وربّما الفضة والبلاتين. أما البالاديوم، فغالباً ما يُذكر كمادة صناعية تحتاج إليها محولات العوادم في السيارات، ولا يُنظر إليه كثيرًا كأداة استثمارية مستقلة تُنافس المعادن الزخرفية. وهذا النمط من التفكير ساهم في أن يُعطى البالاديوم اهتماماً أقل من هذا الذي قد يستحقه.
لكن الحقيقة أن البالاديوم هذا العام لم يكن ضعيفاً: بل ارتفع بنسبة تُقدَّر بـ 35٪ تقريبًا، رغم أن الذهب سجل ارتفاعاً يقارب 45٪، والفضة أكثر من 50٪، والبلاتين نحو 55٪ أو أكثر. هذا الأداء قد لا يفتن المتابع المولع بالمعدلات الأعلى، ولكنه يُشير إلى أن البالاديوم لم “يتعثّر” على الإطلاق — بل على العكس، ربما كان ينتظر مؤقتًا فرصة الانطلاق.
ما يثير الفضول الآن هو التصريحات التي بدأت تُسرّبها بعض بيتَي المال الكبرى، والتي تقول بأن الفارق الكبير في الأداء بين البالاديوم وغيرها من المعادن قد يبدأ في التضاؤل، بل قد ينعكس. من بين هؤلاء كبار الاستراتيجيين في بلومبيرغ، الذين يرون أن البالاديوم قد يكون في “مرحلة بداية صعود قوي”.
لكن هل هذه التوقعات واقعية؟ وهل تكفي الدوافع الأساسية لدعم ارتفاع فعلِي جديد؟ دعونا نغوص في البيانات والسيناريوهات.
العرض، الطلب، والآفاق المتناقضة
2.1 العرض ومصادره
أحد أبرز التحديات التي يواجهها البالاديوم هي مسألة العرض. الإنتاج الأساسي للبالاديوم غالبًا ما يُرفد من بين منتجات أخرى، لا يُعتمد عليه بشكل مستقل، مما يضعه في حالة مرنة من التأثر بآليات إنتاج معادن ذات صلة.
المعطيات الحديثة تُشير إلى أن العرض قد يشهد بعض الضغوط:
- تقرير InvestingNews يقول إنه من المتوقع أن ينخفض العرض الكلي إلى نحو 9.3 مليون أوقية في 2025، مع عجز أولي في المعروض بلغ نحو 624 ألف أوقية مقارنة بالطلب.
- لكن التدقيق الأكثر تحفظًا يرى أن العجز قد يتقلص بدرجة كبيرة هذا العام إلى حوالي 120 ألف أوقية، قبل أن يتحول السوق إلى فائض عام 2026.
- جهة أخرى (مثل Nasdaq) تتنبأ بأن السوق سيتحوّل إلى فائض في 2025، يصل إلى نحو 897 ألف أوقية، بسبب ارتفاع معاد تدوير البالاديوم وزيادة الإنتاج من المناجم الروسية وجنوب أفريقيا.
- بنك HSBC معدّل توقعاته لعامي 2025 و2026 ورفعها إلى متوسط سعر 1,100 دولار للأونصة في 2025، و1,135 دولار في 2026.
- تقرير “Johnson Matthey” يشير إلى أن البالاديوم بين 2012 و2024 كان في حالة عجز مستمر، ولكن من المتوقع أن يتحوّل إلى توازن هذا العام. كما يشير إلى أن إنتاج السيارات العاملة بالبنزين، والتي تستخدم البالاديوم في محولات العوادم، يمكن أن ينخفض بنسبة نحو 5٪.
- كذلك، تحديثات حديثة تشير إلى أن ضعف العرض مع تزايد الطلب على المدى القريب قد تطيل فترات العجز.
إذًا، البالاديوم أمام شبكات من التوقعات المتباينة: البعض يرى فائضًا قريبًا، والبعض الآخر يرى أن الضغوط ستستمر، على الأقل في المدى القريب.
2.2 الطلب: كيف يُستهلك البالاديوم؟
الطلب على البالاديوم ينقسم إلى شقين أساسيين:
- الطلب الصناعي، وبشكل خاص صناعة السيارات، حيث يُستخدم البالاديوم في المحولات الحفّازة للتقليل من الانبعاثات الضارة من محركات البنزين.
- الطلب الاستثماري والجمالي (المجوهرات، الاحتياطي في صناديق ETFs، الحيازة المضاربية).
من الاتجاهات التي تستحق الملاحظة:
- في السنوات الأخيرة، اتجهت بعض الدول — خاصة في آسيا — إلى فرض معايير انبعاثات أدق، مما أدّى إلى زيادة الحاجة إلى البالاديوم داخل المحولات الحفّازة، لا سيما في الصين والهند.
- لكن ظهور المركبات الكهربائية (EVs) يُعتبر تهديدًا هيكليًا طويل الأجل لطلب السيارات التقليدية. مع تزايد حصة EV عالمياً، يمكن أن ينخفض الطلب على البالاديوم في هذا الاستخدام بنحو ملحوظ.
- زيادة المعاد تدوير البالاديوم من محولات العادم القديمة (scrap recycling) يمكن أن تؤمّن جزءًا كبيرًا من العرض التعويضي. التقرير في InvestingNews يتوقع أن قسمًا من المعاد تدويره قد يصل إلى 2.9 مليون أوقية في 2025، ويزيد تدريجياً إلى 3.78 مليون أوقية بحلول 2029.
- كما أن بعض المحللين يرون أن استخدامات جديدة قد تنشأ للبالاديوم في قطاعات مثل تكنولوجيا الهيدروجين، تنقية المياه، والوقود المستقبلي، وهو ما قد يفتح آفاقًا طلبية بديلة جزئيًا.
إذًا، الطلب يعاني من تحدي تقني كبير، لكنه ليس ميّتًا؛ المسألة هي ما إذا ستنجح التطبيقات الجديدة في التعويض، أو في خلق نافذة صاعدة للبالاديوم.
2.3 التذبذُب، الجدارة النسبية، والدولار
البالاديوم معدن شديد التقلب، وأداءه غالبًا ما يكون حساسًا لمعنويات السوق وتوقعات السيولة النقدية، وليس فقط العوامل الأساسية.
- ضعف الدولار الأميركي عادة ما يدعم أسعار المعادن، بما في ذلك البالاديوم، لأنه يجعلها أرخص لحائزي العملات الأخرى ويُحفِّز التدفقات النقدية إلى الأصول الحقيقية. وهذا يُعد من العوامل التي ستدفع المستثمرين إلى إعادة النظر في البالاديوم، إذا استمر ضعف الدولار.
- أيضًا، الفارق النسبي في الأداء يثير الانتباه: إذا بقي البالاديوم “متخلّفًا” مقابل الذهب والفضة والبلاتين، فقد يجذب المضاربين الباحثين عن التصحيح أو القفزة التي تُصحّح هذا التمايز.
- في الآونة الأخيرة، ارتفع البالاديوم إلى مستوى 1,185 دولار للأونصة تقريبًا، مع استمرار انخفاض العرض.
- في المقابل، بعض التقارير تحذيرية: Barron’s تُشير إلى أن توقعات البالاديوم غالبًا ما تكون متفائلة أكثر من الواقع، والدخول في تقديرات مستقبلية صعبة.
سيناريوهات صاعدة ومتحفظة: أيّ الطريق تُختار؟
لن تكون قراءة المستقبل بهذه الأسواق سهلة، لكن يمكننا رسم سيناريوهين معقولين كمرجعيْن للمستثمر الذكي:
السيناريو الصاعد: “اللحاق الكبير”
في هذا السيناريو، يُحقّق البالاديوم قفزة صعودية نتيجة تضافر عوامل مواتية:
- ضعف الدولار الأميركي، واستمرار التسهيل النقدي في بعض الاقتصاديات الكبرى، مما يُزكي الطلب على المعادن الحقيقية.
- ضغوط مستمرة على التعدين والإنتاج في الدول الكبرى (روسيا، جنوب أفريقيا)، بسبب مشاكل لوجستية أو تكاليف استخراج مرتفعة.
- بطء تسارع الانتقال إلى السيارات الكهربائية أو تباطؤه، مما يحافظ على الطلب التقليدي لبعض الوقت الأطول.
- نجاح بعض الاستخدامات الجديدة للبالاديوم في قطاعات مثل الهيدروجين أو التطبيقات الكيميائية، مما يفتح نافذة طلب بديلة.
- تجدد التدفقات الاستثمارية إلى البالاديوم كأصل مضاربي “مُهمل” يمكن أن يقدم عائداً مرتفعًا إذا صح التصحيح.
- في هذا السيناريو، من الممكن أن نرى البالاديوم يرتفع إلى نطاق 1,500 دولار للأونصة خلال المدى المتوسط، وربما يعود في الأجل الطويل إلى ذروة 3,442 دولار التي وصل إليها عام 2022، إذا استمرت الضغوط على المنافسين وتراجعت معدلات الإنتاج. (هذه التوقعات واقعية فقط إن الظروف مواتية بالكامل.)
السيناريو المتحفظ / السلبي: “خصوصية العرض تلتقي بطغيان الطلب الجديد”
في هذا السيناريو، البالاديوم يبقى في دائرة هامشية من الأداء مقابل منافسيه، مع إمكانية تصحيح هبوط:
- تسارع انتشار السيارات الكهربائية بشكل يفوق التوقعات، مما يضغط على الطلب الصناعي التقليدي على المحركات ذات الاحتراق الداخلي.
- تطور تقنيات بديلة للمحولات الحفّازة أو الانتهاء من دور البالاديوم في بعض الاستخدامات الصناعية.
- ارتفاع نسبة المعاد تدوير البالاديوم بشكل سريع، بحيث تكفي لتغطية جزء كبير من الطلب، مما يُحدث فائضًا في السوق.
- تعافي كبير في إنتاجيات المناجم الروسية وجنوب أفريقيا، مما يرفع العرض إلى مستويات تفوق الطلب.
- ضعف معنويات المستثمرين في المعادن العشوائية، أو تحول كبير إلى الذهب والبلاتين والفضة كبدائل أقل مخاطرة.
- في هذا السيناريو، قد تُسجَّل حركة عرض جانبي أو تراجع إلى نطاقات أقل (مثلاً ما بين 900 إلى 1,100 دولار) في حال شيوع التوقعات السلبية.
في الواقع، من المرجح أن يتحرك البالاديوم في نطاق “حياد متذبذب” في المدى القصير، ما لم يحدث تطور كبير خارجي (كالانهيار المفاجئ في إنتاج أحد الموردين أو طفرات في التطبيقات الجديدة).
توصيات للمستثمر الذكي: كيف نراقب الطريق؟
لتوجيه قرار استثماري في البالاديوم، أقترح على القارئ أن يتبنّى استراتيجية مراقبة واستجابة (monitor-and-react) أكثر منها توقع مسبق كامل. وإليك خطوات عملية:
- الاتجاه النسبي أولاً
لا تنظر إلى البالاديوم بمعزل عن الذهب أو البلاتين؛ إذا بدأ البالاديوم في تضييق الفجوة في الأداء، فذلك سيكون إشارة أولى مهمة للدخول. - مراقبة بيانات العرض والطلب الحديثة بانتظام
راقب تقارير مثل Johnson Matthey أو الجهات التي تتابع المعادن الثمينة، لمعرفة ما إذا بدأ السوق بالتحرك من العجز نحو التوازن أو الفائض. - راقب تطورات تكنولوجيا السيارات والكهرباء
أي تسارع مفاجئ في تحوّل السيارات إلى الكهرباء، أو أي اختراق تقني يُقلّص الاعتماد على البالاديوم، سيكون له أثر كبير على الطلب المستقبلي. - فتح مراكز صغيرة كمراوغة، وليس كلّ الحصص دفعة واحدة
استخدم جزءاً من المحفظة كرهان تجريبي، وانتظر إشارات الحسم أو التأكيد، بدل أن تراهن بمبلغ كبير دفعة واحدة. - ضع سقف خسارة واضحًا (stop-loss) وربما سقف ربح لتثبيت المكاسب
في أسواق المعادن، التقلبات قوية. تحديد نقاط الخروج أمر حاسم للحماية. - انظر إلى الاستثمارات المرتبطة، ليس فقط المعدن المادي
يمكن أن تستفيد من شركات التعدين أو صناديق ETFs التي تعرض البالاديوم، بشرط التدقيق في تكاليف الإدارة والرافعة التشغيلية. - راعِ التوزع في المحفظة
لا تضع كل البيض في سلة البالاديوم – استخدمه كتعزيز ضمن محفظة متوازنة من المعادن والأسهم والأصول الأخرى.
هل البالاديوم مرشح للصعود أم لا؟
إذا أراد المرء أن يلخّص هذا الطرح في جملة واحدة، فإنها قد تكون:
البالاديوم معدن مثير للاهتمام في 2025، لكنه ليس “اللُعبة المفتوحة” التي يُظن أن أي استثمار فيها مضمون. هو رهان متوازن بين الفرص والمخاطر، يتطلب يقظة وسرعة استجابة أكثر مما يتطلب إيمانًا أعمى.
إذا تحقّقت ظروف السيناريو الصاعد — ضعف الدولار، مشاكل في العرض، تراجع مفاجئ في تحول السيارات إلى الكهرباء، ونجاح تطبيقات جديدة — فقد نرى البالاديوم يصحّح موقعه ضمن المعادن الثمينة. ولكن إن فازت قوى الاتجاه العكسي (انتشار EV سريع، معاد تدوير قوي، إنتاج متزايد) فربما يبقى البالاديوم منزاحًا في منطقة هامشية، أو حتى يهبط.
لمستثمري المعادن في الكويت والعالم العربي، تُعد هذه فرصة للمراهنة المتوازنة: ليس استثمارًا بلا مخاطرة، بل خيارًا يمكن إدماجه بحكمة ضمن استراتيجية أوسع. وفي العدد القادم، سنغوص في أدوات تنفيذية (أي صناديق، أي شركات تعدين، أي طرق للاقتناء الفعلي للبالاديوم في منطقتنا).
الاشتراك في خدمات شركة أمواج كابيتال
إذا كنت ترغب في الاستفادة من التقلبات الاقتصادية في الأسواق العالمية، يمكنك الآن
فتح حساب في شركة أمواج كابيتال من هنا.