في عالم المال، لا تتحرك الأسواق بالأرقام وحدها، ولا تصعد المؤشرات بفضل الأرباح الفصلية أو البيانات الاقتصادية فحسب. كثيراً ما تكون المشاعر هي الوقود الحقيقي وراء القمم والانهيارات. الطمع، القلق، الهلع، التفاؤل المفرط… كلها أحاسيس تتجسد على شاشات التداول كل يوم. لكن بين كل هذه الدوافع النفسية يبرز شعور واحد بات يحدد مسار الأسواق الحديثة: الخوف من ضياع الفرصة، أو ما يُعرف اليوم بظاهرة الفومو (FOMO).
هذا الخوف الذي يتسلل إلى عقول المستثمرين يجعلهم يتساءلون في كل لحظة: هل ألحق بالركب قبل أن يفوتني قطار الأرباح؟، حتى وإن كان ذلك على حساب العقل والمنطق. النتيجة؟ موجات شراء جماعية ترفع الأسعار إلى مستويات غير مبررة، يتبعها غالباً تصحيح عنيف يترك وراءه خاسرين كُثر.
ومع تصاعد دور الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، لم يعد الفومو حالة نفسية فردية، بل تحول إلى ظاهرة جماعية تعيد تشكيل الأسواق العالمية. فما هو الفومو؟ كيف يقود الأسواق إلى قمم غير مسبوقة؟ ولماذا يشكل خطراً على الاستقرار المالي العالمي؟
ما هو الفومو؟
الفومو ليس مصطلحاً اقتصادياً أصيلاً، بل وُلد في علم النفس والاجتماع لوصف خوف الناس من تفويت حدث أو تجربة يعيشها الآخرون. ثم انتقل تدريجياً إلى عالم المال، حيث وجد بيئة خصبة.
في الأسواق، يتجسد الفومو في شعور المستثمر أن الآخرين يحققون أرباحاً استثنائية، بينما هو ما يزال متردداً أو خارج اللعبة. هذا الإحساس يجعله يدخل في السوق ليس بدافع القناعة أو الدراسة، بل تحت ضغط نفسي، وكأن فوات الفرصة جريمة لا تُغتفر.
ولأن الأسواق قائمة على السلوك البشري بقدر ما هي قائمة على الاقتصاد، فإن الفومو سرعان ما أصبح أحد أقوى المحركات غير العقلانية لقرارات الشراء والبيع.
الفومو في الأسواق المالية – المحرك الخفي
عندما ترتفع الأسهم بقوة، أو تسجل العملات الرقمية أرقاماً تاريخية، أو يقفز الذهب إلى مستويات قياسية، فإن السؤال الذي يتردد في أذهان المستثمرين الجدد هو: هل سأكون الوحيد الذي ضيّع فرصة العمر؟
هنا يظهر الفومو. ومن خلاله تتحول الأسواق إلى قطيع من المتداولين يسيرون باتجاه واحد: الشراء مهما كان السعر. هذا السلوك يؤدي إلى تضخيم الأسعار بسرعة، وغالباً ما يتجاهل أساسيات الاقتصاد مثل الأرباح، النمو، أو قدرة الشركات على توليد السيولة.
في وول ستريت مثلاً، يُنظر إلى الفومو على أنه العامل غير المرئي الذي يفسر صعود مؤشرات مثل ستاندرد آند بورز 500 وناسداك المركب إلى قمم متتالية رغم تباطؤ النمو الاقتصادي أو المخاوف الجيوسياسية. الإعلام بدوره يضخم الظاهرة بعناوين براقة عن “الفرص التاريخية”، بينما تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دور المسرّع عبر نقل قصص نجاح سريعة تجعل الجمهور يندفع بلا تردد.
أمثلة تاريخية ومعاصرة للفومو
1. فقاعة الإنترنت (1999 – 2000)
عندما انطلقت شركات التكنولوجيا الناشئة إلى البورصات، اندفع المستثمرون لشراء أي سهم يحمل كلمة “دوت كوم”. كانت التقييمات فلكية، ومع ذلك لم يتردد أحد خوفاً من تفويت “ثورة الإنترنت”. النتيجة: انهيار شامل أزال تريليونات الدولارات من القيمة السوقية.
2. الطفرة العقارية قبل أزمة 2008
لم يكن شراء المنازل في تلك الفترة استثماراً عقلانياً بقدر ما كان سباقاً لاقتناص الفرصة قبل أن “تفوت”. النتيجة كانت كارثية مع انفجار فقاعة الرهن العقاري.
3. العملات الرقمية (2020 – 2021)
قفزت بيتكوين من 10 آلاف دولار إلى 69 ألف دولار في عام واحد. ملايين المستثمرين حول العالم اشتروا بدافع الفومو، قبل أن يفقدوا نصف ثرواتهم مع انهيار السوق لاحقاً.
4. أسهم GameStop وأسهم الميم
في 2021، تحولت بعض الأسهم الخاسرة إلى أساطير بسبب موجات شراء جماعية من الشباب عبر منصات التواصل. لم تكن الشركات تحقق أرباحاً، لكن الفومو غذّى القفزة.
5. الذهب عند 3700 دولار للأونصة
رغم المؤشرات الفنية التي كانت تنذر بمرحلة “تشبّع شرائي”، إلا أن آلاف المستثمرين دخلوا السوق بدافع الخوف من ضياع مكاسب إضافية.
البعد النفسي والسلوكي للفومو
علم النفس المالي يشرح هذه الظاهرة بوضوح: البشر يميلون إلى تضخيم خسائرهم المستقبلية أكثر من تقدير مكاسبهم. بمعنى آخر، مجرد فكرة أن صديقك أو جارك قد يربح وأنت لا، تُعتبر خسارة نفسية لا تُحتمل.
الفومو أيضاً يُغذى بما يُعرف بـ سلوك القطيع، حيث يتبع الأفراد الجماعة ظناً أن الكثرة لا تخطئ. وهكذا يصبح قرار الشراء استجابة عاطفية لا تحليلية.
اللافت أن المستثمرين الجدد أكثر عرضة للفومو، لأنهم يفتقرون للخبرة ويتأثرون سريعاً بقصص النجاح السريعة التي تنتشر كالنار في الهشيم عبر الإعلام ومواقع التواصل.
الفومو والبيتكوين – قصة هوس عالمي
منذ تجاوز البيتكوين حاجز 100 ألف دولار، والضغوط النفسية على المستثمرين في ذروتها. التوقعات التي تتحدث عن وصول السعر إلى 150 أو 200 ألف دولار دفعت أعداداً هائلة من الأفراد والمؤسسات إلى ضخ مليارات جديدة.
لكن كل موجة صعود مبنية على الفومو تجعل السوق أكثر هشاشة. أي تصريح سلبي من الاحتياطي الفيدرالي أو انهيار في منصة تداول يمكن أن يطلق سلسلة هبوط قاسية. وهكذا يتحول الحلم بالثراء السريع إلى كابوس.
الفومو والذهب – الملاذ الآمن أم فخ نفسي؟
الذهب كان عبر التاريخ ملاذاً آمناً في أوقات الأزمات. لكن عندما تدفع العاطفة المستثمرين إلى شرائه عند قمم قياسية، يصبح “الملاذ” نفسه فخاً.
الذين اشتروا الذهب عند 3700 دولار للأونصة بدافع الفومو سرعان ما وجدوا أنفسهم أمام موجة بيع عاصفة، لأن الأسعار كانت قد ابتعدت كثيراً عن أساسيات العرض والطلب.
دور الفيدرالي والسياسة النقدية في تغذية الفومو
الفيدرالي الأميركي، عبر سياساته النقدية، يلعب دوراً مركزياً في تشكيل البيئة التي ينمو فيها الفومو. كل خفض للفائدة يعني سيولة أرخص، ما يدفع المستثمرين إلى البحث عن عوائد أعلى في الأصول الخطرة.
لكن المشكلة أن التوقعات تسبق الواقع. مجرد إشارة من الفيدرالي تكفي لإطلاق موجات شراء، حتى قبل أن تتحسن المؤشرات الاقتصادية فعلياً. وهذا بالضبط هو الوقود الذي يحتاجه الفومو لينفجر.
الأسواق الناشئة – من التهميش إلى بؤرة الفومو
بعد سنوات من عزوف المستثمرين عن الأسواق الناشئة بسبب المخاطر السياسية والاقتصادية، شهدت هذه الأسواق عودة مفاجئة للتدفقات المالية. السبب لم يكن تحسناً جوهرياً، بل الفومو: البحث عن أي فرصة لتحقيق مكاسب تفوق ما هو متاح في الاقتصادات المتقدمة.
لكن هذه العودة لا تخلو من المخاطر. فالأموال الساخنة قد تخرج بالسرعة نفسها التي دخلت بها عند أول إشارة سلبية، لتترك الاقتصادات الناشئة في مواجهة تقلبات حادة.
المخاطر الكامنة وراء الفومو
الفومو يجعل الاستثمار أقرب إلى المقامرة. المستثمر يدخل بلا دراسة، يضع كامل مدخراته في أصل واحد، ويأمل أن يستمر الصعود.
لكن الأسواق بطبيعتها دورية. وكلما ارتفعت بدوافع غير عقلانية، كلما كان الهبوط أشد قسوة. والنتيجة هي فقاعات قصيرة الأجل تبتلع السيولة وتترك وراءها خسائر ضخمة للاقتصاد والمستثمرين الأفراد على حد سواء.
نصائح للمستثمرين – كيف تتفادى الفومو؟
- الانضباط وإدارة المخاطر: لا تدخل أي صفقة بلا خطة واضحة.
- لا تشترِ عند الذروة: انتظر إشارات فنية واقتصادية حقيقية.
- فكّر على المدى الطويل: لا تركض خلف مكاسب سريعة.
- نوّع محفظتك: صناديق المؤشرات والمحافظ المتوازنة أقل عرضة لتقلبات الفومو.
- خصص حصة صغيرة للمغامرات: 1 – 2% فقط من المحفظة.
- لا تتابع الشائعات: ابْنِ قراراتك على البيانات لا على قصص النجاح المنتشرة.
مستقبل الفومو في الأسواق
في عصر التداول الخوارزمي والذكاء الاصطناعي، قد يتضاعف تأثير الفومو. الخوارزميات نفسها قد تتحرك استجابة لموجات الشراء الجماعي، فتزيد من تسارع الظاهرة.
الهيئات التنظيمية تستطيع التدخل عبر أدوات مثل تقييد التداول أو فرض هوامش أعلى، لكن الحقيقة أن الفومو جزء أصيل من الطبيعة البشرية. فطالما أن البشر يخافون من تفويت الفرص، ستظل الأسواق عرضة لهذه الموجات العاطفية.
قوة نفسية
ظاهرة الفومو ليست مجرد مصطلح عصري، بل هي قوة نفسية هائلة تتحكم اليوم بمسار الأسواق العالمية. قد ترفع الأسهم والذهب والعملات الرقمية إلى قمم غير مسبوقة، لكنها في الوقت نفسه تزرع بذور الانهيارات المقبلة.
ولذلك فإن الرسالة التي يجب أن تصل لكل مستثمر، صغيراً كان أو محترفاً، واضحة: لا تدع الفومو يقودك. السوق ليس ملعباً للمشاعر بل ساحة للعقل والانضباط.
قد يمنحك الفومو مكسباً سريعاً، لكنه في النهاية طريق مختصر نحو الخسارة. فالأسواق التي تُدار بالعاطفة لا تعرف الرحمة، والتاريخ مليء بالأمثلة.
الاشتراك في خدمات شركة أمواج كابيتال
إذا كنت ترغب في الاستفادة من التقلبات الاقتصادية في الأسواق العالمية، يمكنك الآن
فتح حساب في شركة أمواج كابيتال من هنا.