المشهد الراهن: أرقام تنهار في التاريخ
في الأيام الأخيرة، اجتاز الذهب مستويات قياسية جديدة. ففي المعاملات الفورية، ارتفع الذهب بنسبة بلغت نحو 0.44٪ ليبلغ حوالي 4,128.30 دولاراً للأوقية، وهو مستوى فاق الأرقام السابقة. ومما يزيد الدراما أن المعدن اقترب – خلال جلسة التداول – من مستوى 4,179.71 دولار، الذي يسجّل رقماً قياسياً في تاريخه. كما أن العقود الآجلة لتسليم ديسمبر سجلت صعوداً إلى 4,144.60 دولار للأوقية، مع ذروة عند 4,190.90 دولار في بعض الفترات.
وعلى مدى العام الحالي، قفز الذهب بنسبة تقارب 57٪، متجاوزاً حاجز 4,100 دولار للمرة الأولى، في ظل موجة شراء قوية من البنوك المركزية وصناديق الاستثمار، مدعومة بمخاطر الجغرافيا السياسية وتوقعات خفض الفائدة في الولايات المتحدة.
من جانب آخر، عانت الفضة تصحيحًا فوريًا، فتراجعت بنسبة 2.06٪ لتسجل حوالي 51.28 دولاراً للأوقية، بعد أن بلغت ذروة عند 53.54 دولارًا، مع تأثرها – إلى حدٍّ كبير – بإيقاع الذهب نفسه وبمخاوف الطلب الصناعي على المعدن الأبيض.
هذه الأرقام، بحد ذاتها، ليست مجرد انعكاس لتذبذب السوق، بل تُعدّ مؤشرات حية على مرحلة انتقالية. إذ إنها تحمل بين طياتها أسئلة استراتيجية: إلى أي مدى يمكن أن يمتد هذا الصعود؟ وهل نحن أمام فقاعة أم مشروع هيمنة نقدي جديد؟ وما الدور الذي سيلعبه قرار “باول” ورفاقه في البنك المركزي الأميركي؟
المحركات الكبرى: بين تقليل السعر والرهانات النقدية
لكل ضربة سعرية مفاتيح، وفي سوق المعادن الثمينة تتضافر عدة محركات في وقت واحد. إليك أهمها:
أ. خفض أسعار الفائدة: جوهر الرهان
أحد المحركات الأساسية التي تُشير إليها أسواق المال هو التوقع القوي بأن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي سيبدأ في خفض أسعار الفائدة، ربما بمقدار 25 نقطة أساس في أكتوبر، وبنسبة تقارب 99٪ وفق مؤشر “فيد ووتش”، كما يشير البعض إلى احتمال تكرار الخفض في ديسمبر (مع توقع بنسبة 94٪). هذه التوقعات خفّضت “تكلفة الفرصة البديلة” لحيازة الذهب أو الفضة التي لا تدرّ فائدة نقدية، مما عزز إقبال المستثمرين عليها.
ومن اللافت أن التوتر التجاري بين الولايات المتحدة والصين، رغم أهميته، لا يعدّ المحرّك الأوحد أو الأساسي اليوم؛ بل إن المراهنة على مسار السياسة النقدية وتأثيراتها على تكاليف الاقتراض هي النقطة الفاعلة الأشدّ تأثيرًا في تكوين الاتجاه الصعودي لملاذات مثل الذهب. كما يقول كبير محللي “أواندا” كيلفن وونغ: “ليست التوترات التجارية هي المحرّك الرئيسي في هذه اللحظة، بل هي التوقعات بخفض الفائدة وتقليص تكلفة التمويل طويل الأجل.”
ب. القيود الصينية والتوترات التجارية
إضافة إلى التحفيز النقدي المتوقع، تزايد القلق في السوق من تجدد التوتر الأميركي–الصيني، خصوصًا بعدما أعلنت بكين توسعة القيود على تصدير المعادن النادرة، وهو ما دفع واشنطن إلى التهديد بفرض رسوم جمركية مضاعفة على الواردات الصينية وتقييد تصدير البرمجيات الاستراتيجية. هذا التصعيد يعيد الذهب إلى مركز الملاذ الآمن الجاذب في لحظات الشك.
لكن من المهم ملاحظة أن هذا التوتر ليس جديدًا بالكامل؛ السوق كان قد تكيف مع احتمالات مفاوضات متذبذبة وتصريحات متضاربة. ما يجعله يحتل مركزًا فاعلًا الآن هو ارتفاع وتيرة التهديدات والتصريحات، الأمر الذي يثير مزيدًا من المخاوف الائتمانية والسيولة في الأسواق العالمية.
ج. الشراء المكثف من البنوك المركزية وصناديق الاستثمار
لا يمكن إغفال أن ارتفاع الذهب بهذا الزخم لم يكن نتيجة الطلب المضاربي وحده، بل بدعم صريح وقوي من البنوك المركزية حول العالم، التي تواصل تنويع احتياطاتها خارج الدولار إلى المعدن الأصفر. كما تستفيد صناديق الاستثمار المتداولة (ETFs) من هذا المناخ، حيث تشكّل التحركات المؤسسية بها رافعة قوية للتدفقات الرأسمالية إلى الذهب. هذا التوازن بين الطلب المؤسسي والطلب المضاربي يساعد في حفظ الزخم من الانهيار المفاجئ.
د. ضعف الدولار والتضخم المتلاشٍ
من العوامل الكلاسيكية التي تدعم الذهب: العلاقة العكسية مع الدولار، وانخفاض العائدات الحقيقية. في بيئة يتراجع فيها الدولار أمام سلة العملات، ويُضغط فيها على العوائد الحقيقية بفعل خفض الفائدة المحتمل، يصبح الذهب خيارًا جاذبًا يُشجّع الشراء المتزايد من جهات متنوعة.
الحفر في العميق: هل هذا صعود منطقي أم قنبلة مقنّعة؟
بدون تشويش، يجب أن نعترف بأن هناك إشارات تحذيرية يجب أن توضع في الحسبان مع هذا الصعود الجنوني:
١. التشبّع التقني وتصحيحات الانسحاب
من الناحية الفنية، العديد من مؤشرات الزخم (Momentum) ومؤشر القوة النسبية (RSI) تسير الآن خارج نطاق الاعتدال، وهي تُشير إلى أن السوق قد يكون في منطقة تشبّع شرائي. أي هبوط طفيف أو تراجع مفاجئ قد يثير موجة تصحيحية حادة. هناك من يقول إن الذهب ارتفع لأسبوع واحد متواصل، وهذا نادر الحدوث في تاريخ السوق، وقد يعقب ذلك هبوط جزئي.
٢. الاعتماد على التوقعات: خطر القطيعة بين التوقع والواقع
إن كثيرًا من السوق لا يتحرك على أساس وقائع ملموسة بقدر ما يُدار على أساس توقعات. فإذا تأخّر خفض الفائدة – أو لم يكن بالوتيرة المتوقعة – فإن الذهب قد يواجه عملية تصحيح عنيفة. كذلك، إذا تعافى الدولار أو تعافى العائد الحقيقي للسندات الأميركية فإن الزخم قد ينعكس.
٣. الإغراق في المضاربة
الصعود القوي قد يدفع مزيدًا من المتعاملين إلى الدخول بدافع الخوف من تفويت الفرصة (FOMO)، مما يخلق حركة سعرية مدفوعة بمضاربات، وليس بتحولات هيكلية. هذا النوع من التراكم غالبًا ما ينهار بشكل مفاجئ عند أي عنصر صدمة خارجي.
٤. سقف السيولة والمخاطر العالمية
في حالة نشوب أزمة جديدة أو إعادة تقييم أسعار الفائدة العالمية، قد يُضغط على السيولة في أسواق الأصول بشكل عام، ما قد يطيح بصعود الذهب أو يجبر على بيع في لحظة “الذعر العام”.
لكن رغم هذه المخاوف، يمكن القول إن الهيكل الكلي للسوق اليوم يدعم بقوة الاتجاه الصاعد، طالما أن دفاتر الطلب والمؤسسات الكبرى لا تتراجع فجأة.
سيناريوهات مستقبلية: الخيارات أمام الذهب
عند كتابة هذا المقال، يمكن اقتراح ثلاثة سيناريوهات موازية تقود إلى مستقبل مختلف للذهب:
سيناريو (أ) الزخم الممدود: الطريق إلى 5,000 دولار
في هذا السيناريو، تحافظ السيولة على قوتها، وتبدأ خفضات الفائدة الفعلية في وقتها، ويستمر التوتر الجيوسياسي في التصاعد من وقت لآخر، مع تدفّق مستمر لرؤوس الأموال المؤسسية والاحتياطية إلى الذهب. هنا، الإطار المتوقع – كما تروّج له بعض المؤسسات الكبرى – أن الذهب قد يقفز إلى 5,000 دولار للأوقية بحلول عام 2026 (كما يرفع بنك أوف أميركا توقعه). هذا النمو سيكون على دفعات، مع موجات تصحيح محلية، لكنه يبقى الطريق المرجّح في إطار الزخم الحالي.
سيناريو (ب) الركود المؤقت أو التراجع الفني
إذا واجهت الاقتصاد الأميركي مفاجآت سلبية، أو إذا جاءت بيانات التضخم أقوى من المتوقع، أو تأخّرت خفض الفائدة، فقد يدخل الذهب في استراحة تصحيحية قد تهبطه بنسبة 10-20٪ مؤقتًا إلى مستويات دعم عند 3,800–3,900 دولار، أو حتى أقل في حالة رد فعل مباغت من السوق. في هذه الحالة، لن يكون هناك انهيار مريع، لكن التراجع من المسار الصعودي يمكن أن يعيد السوق من نقطة “شهوة الشراء” إلى تصالح مع العوامل الموضوعية.
سيناريو (ج) التثبيت الطولي: رحلة صعود بطيئة
في هذا السيناريو الأمثل للمحافظين، يتحرك الذهب صعودًا تدريجيًا مع فترات تماسك، تُكسر من حين إلى حين على نطاق ضيق، ويتخللها عمليات “جني أرباح” مقنّنة. هنا، الاستثمار طويل الأجل يظل رابحًا، أما المضاربون فقد يبحثون عن فرص على التصحيحات. يُعتبر هذا السيناريو الأكثر تحفظًا وربما الأكثر استدامة، لكن ربما الأبطأ في بلوغ المستويات الكبرى.
توصيات استراتيجية للقارئ المستثمر والصانع السياسات
أنظر هنا إلى بعض التوصيات التي أودّ أن يعكف عليها القارئ الاستراتيجي:
- تنويع المراكز في الذهب على طبقات
لا تدخل الساعة الكاملة في نقطة واحدة. وزّع دخولك على مستويات دعم رئيسية، وضع نقاط خروج جزئية. هذا يمنحك القدرة على اقتناص التصحيحات المحتملة. - المراقبة الحذِرة لبيانات التضخم والوظائف الأميركية
أي إشارات تفوق التوقعات في بيانات التضخم أو سوق العمل قد تلجّم خفض الفائدة بكثافة، فتُحدث صدمة في الأسعار. كُن على دراية بأي تغير مفاجئ في الاتجاه. - إدارة مراكز محفوفة بالإيقاف الاستراتيجي (Stop-Loss)
مع الزخم الكبير، فإن التصحيحات لن تكون نادرة. استخدم نقاط وقف ذكية (نهج تقني) لتقليل الخسائر عند الانكسار الحاد. - الربط بالفضة وغيرها من المعادن
رغم أن الفضة تتبع الذهب بشكل عام، فإنها تتمتع بعلاقة أقوى بالطلب الصناعي، ما يتيح فرصًا إضافية في الأوقات التي تتراجع فيها المخاوف وتزداد قوة الاقتصاد الصناعي. - متابعة السياسة النقدية الدولية
ليس الحراك الأميركي وحده ما يحرك الذهب؛ بل أي تحوّل في أوروبا، اليابان، الصين، أو مؤشرات الأزمات في الأسواق الناشئة قد ينعكس فورًا على تدفقات الذهب. - استخدام الذهب ليس كمخزن للقيمة فحسب، بل كخط حماية تكميلي
في حال تصاعدت المخاطر المالية أو السياسية، قد يكون الذهب ملاذًا حقيقياً للنصيحة التكميلية: ليس كاستثمار رئيسي دائمًا، بل كدرع في محفظة الأصول.
مفترق الذهب
في هذه اللحظة التاريخية، يقف الذهب عند مفترق دروب. إما أن يواصل رحلته ليصبح جزءًا لا يتجزأ من الديناميات النقدية العالمية، أو أن يواجه تصحيحًا مدفوعًا بقوى السوق المضادّة. وما يجعل الساحة مثيرة هو أن الذهب لا يتحرك لوحده — إنه مرآة تعكس ثقة الأسواق في التحول الكبير نحو توازن جديد في النظام المالي العالمي.
كقارئ ومراقب، أدعوك لأن لا تستهين بهذا الصعود، ولكن أن تراقبه بعين الحكمة. إن سباق الذهب الآن ليس سباق أسعار فقط، بل سباق ثقة بين البنوك المركزية، المستثمرين، والاقتصادات الكبرى. في هذا السباق، ليس المهم أن تصل أولاً فحسب، بل أن تبقى مستعدًا للتغيّر المفاجئ ولصعود جديد إذا ثبتت الدعوم، أو لتراجع مؤقت إذا اهتزّ الأساس.