غير مصنف

الذهب بين القمّة وتصحيح المكاسب: قراءة مبدئية

ما نراه حالياً في سوق الذهب ليس مجرد تحرّك عابر، بل مرحلة مفصلية في دورة استثمارية كبيرة. فقد سجّل الذهب مستويات قياسية، وواجه في الوقت نفسه ضغطاً لتصحيح المكاسب، ما يثير أسئلة حول مدى استدامة هذا الصعود وما هي المخاطر الملحقة به.

على سبيل المثال، ووفق بيانات حديثة، انخفضت أسعار الذهب الفوري بنسبة تُقدَّر حوالي 2 ٪ بعد أن بلغ المعدن النفيس سقفاً عند نحو 4,381 دولاراً للأوقية. هذا التصحيح جاء بعد موجة شرائية قوية دفعتها عوامل عدة.
في هذا النطاق، يجدر تسجيل ملاحظة مهمة: التصحيح ليس بالضرورة نهاية الصعود، بل قد يكون استراحة أو فرصة دخول جديدة في ظل استمرار بعض العوامل الأساسية.

ما الذي يحرك الذهب اليوم؟

لنضع معاً أهم المحركات التي تُشكِّل واقع الذهب حالياً، مع رصدٍ للاعتبارات الاستراتيجية لكل منها:

  1. السيولة العالمية والطلب الاستثماري

إن ضخّ الحكومات والبنوك المركزية لمليارات الدولارات خلال الأعوام الأخيرة – وبعد جائحة كورونا – ترك أثره في الأسواق المالية. الوقود السيولي الهائل المتوافر جعل الأصول كافة ترتفع، بما في ذلك الذهب. إذ لا ينظر إليه اليوم فقط كملاذ آمن في وقت الخوف، بل كجزء من أوسع عملية تخصّص للأصول في زمن منخفض العائد.
الطلب من صناديق المؤشرات المتداولة (ETFs) ارتفع بشكل ملحوظ، وكذلك حيازات البنوك المركزية، وهو ما يعكس تحولاً هيكلياً في الطلب على الذهب.

  1. ضعف الدولار الأميركي وتوقعات خفض الفائدة

يتّجه الذهب عادة إلى الارتفاع عندما تنخفض العوائد الحقيقية وسعر الفائدة، لأن المعدن لا يدرّ فائدة مباشرة، وبالتالي فإن تكلفته الفرصية تقلّ. خلال الفترة الراهنة، هناك توقع لدى الأسواق بأن Federal Reserve (البنك المركزي الأميركي) سيخفض أسعار الفائدة. هذا عامل مهمّ يرفع من جاذبية الذهب.
بالمقابل، ضعف الدولار يعزّز الذهب لغير المتعاملين بالعملة الأميركية، مما يرفع الطلب العالمي على المعدن.

  1. التوترات الجيوسياسية والمخاطر النظامية

لا يمكن إغفال أن التوترات الدولية – سواء في الشرق الأوسط أو على جبهة الصراع التجاري – تلعب دوراً في رفع الطلب على الذهب كملاذٍ آمن. فالمستثمر لا يبحث فقط عن عائد، بل عن «وقاية».
هذا الباب يفتح السؤال: هل صعود الذهب اليوم انعكاس لتوترات حقيقية أم لجزء من حالة هوس سيوليّ؟

  1. العلاقة المتغيّرة بين الذهب والأسهم

من اللافت أن الذهب والأسهم الكبرى ارتفعا معاً في الآونة الأخيرة، وهو الأمر الذي يخالف النمط التقليدي الذي كان يفترض عادة أن الذهب يتّجه عكس الأسهم حين تسود المخاوف. وفق تحليلات، هذا التزامن يدلّ على أن الذهب لم يعد مجرد تلوّن في المحافظ عند الخوف، بل أصبح جزءاً من بنية أوسع من التخصيصات الاستثمارية في سياق السيولة الزائدة.
وبالتالي، فإن فهم الذهب لا يمكن أن يكون بمعزل عن فهم الأسهم والأسواق المالية الأوسع.

لماذا هذا الصعود؟ قراءات استراتيجية

بتطبيق منظور رؤيوي، يمكن تلخيص دوافع هذا الصعود في النقاط التالية:

  • تحوّل جوهري في الطلب على الذهب: من الطلب التقليدي (المجوهرات، البنوك المركزية) إلى طلب استثماري بمقاييس ضخمة.
  • انخفاض عائدات الأصول التقليدية: في بيئة فائدة منخفضة، يبحث المستثمرون عن بدائل، والذهب أحدها.
  • التشكيك في النموول الاقتصادية: على الرغم من أن بعض الأرقام ما تزال مقبولة، لكن كثيراً من المستثمرين يشكّون في استدامة النمو، ما يدفعهم إلى تأمين رؤوسهم.
  • تغيّر هيكليّ في دور الدولار: التوجّهات نحو تنويع الاحتياطيات وتقليص الاعتماد على الدولار تعطي الذهب إضافة استراتيجية.
  • الزخم النفسي وتقنيات السوق: الوصول إلى مستويات قياسية يُولّد تغطية إعلامية، جذب مستثمرين جدداً، مما يعزز الزخم في السوق.

ما هي نقاط القلق والمخاطر؟

لكلّ فرصة جانبها الآخر. وللحديث الصادق، يجب أن نضع تحت المجهر المخاطر حتى لا يُفاجأ المتعامل أو القارئ بما هو غير متوقّع.

التشبّع في السوق والمخاطر التصحيحيّة

مع أن الذهب ما زال يُعدّ في مرحلة صعود، فإن الوتيرة التي وصل بها إلى مستويات فائقة تثير مسألة: إلى متى؟ أو بعبارة أدق: ما هي نقطة التحوّل؟ وفق تحليل World Gold Council، فإن الانتقال من مستوى 3,500 دولار إلى 4,000 دولار استغرق فقط 36 يوماً – وهو أسرع من معظم المرات السابقة.
وبالتالي، فإن هناك احتمالاً لتصحيح أو لتراكم خسائر جزئية، خاصة في حالة تغيّر أحد المحرّكات.

ارتفاع توقعات التضخّم أو تشدد السياسات النقدية

إذا خرجت بيانات التضخّم الأميركية أو المؤشرات الاقتصادية عن نطاق التوقّعات، مما دفع الفيدرالي إلى رفع أو تثبيت الفائدة بدلاً من خفضها، فإن بيئة الدعم للذهب قد تتدهور. أيضاً، تشديد السياسات من بنوك مركزية أخرى قد يقلّل الطلب على الملاذات التقليدية.

تغيّر مفاجئ في معنويات المستثمرين

إذا انتقل «العائد على المخاطر» إلى أصول أكثر مخاطرة، أو إذا تحسّنت الثقة في النمو بشكل كبير، قد يتراجع الطلب على الذهب كملاذ، ويبدأ التيار نزولاً أو انكماشاً.
وبما أن جزءاً من صعود الذهب يعكس تغطية نفسية وتحسّساً استثمارياً، فإن انخفاض هذا الشعور يُعدّ عاملاً محبّطاً.

عوامل فنية وتقنيّة

من جهة التحليل الفني، قد يُنظر إلى بعض المستويات القياسية كفرصة لجني الأرباح، كما حصل فعلياً. وهذا ما يجعل إيجاد نقطة دخول (في حالة رغبة المستثمر) أكثر تقدّماً من مجرد الدخول على التراجع.

ما الذي يمكن أن يتوقّعه المستثمر والعاملون في المنطقة؟

من المهم جداً أن يتحلّى القارئ – سواء كان مستثمراً أو متابعاً – بنظرة استراتيجية تأخذ في الاعتبار كل ما سبق. وإليكم ما أراه من توصيات أو سيناريوهات بناءً على المعطيات:

توصية 1: التعامل مع الذهب كجزء من المحفظة وليس كلّها

– لا يُنصح بوضع كل الرهان على الذهب، حتى في هذا الوقت «الذهبويّ».
– باعتباره أداة تحوّط، غالباً ما يكون تخصيصه بين 5 إلى 15 ٪ من المحفظة كافٍ في هذا السياق (بما في ذلك الأسهم والسندات).
– عند الدخول، اختيار نقطة سعر مناسبة مع اختبار التراجع كفرصة وليس فخاً.

توصية 2: متابعة المتغيّرات الكلية عن كثب

– بيانات التضخّم الأميركي (مثل مؤشر أسعار المستهلكين).
– قرارات الفائدة لدى الفيدرالي.
– تحرّكات الدولار الأميركي ومعدّلات العائد الحقيقية.
– التدخّلات الجيوسياسية أو التطوّرات التي قد تؤثّر بشكل مفاجئ على معنويات السوق.
– تدفقات صناديق الذهب (ETFs) وحجم شراء البنوك المركزية.

توصية 3: تحديد سيناريوهات بديلة

السيناريو الأساسي: استمرار الارتفاع لكن بوتيرة أكثر تأنّياً، ربما الوصول إلى مستويات أعلى بين 4,500 – 5,000 دولار للأوقية خلال الأشهر المقبلة، مع بعض التراجع المؤقّت. (يتماشى مع توقعات بعض بنوك الاستثمار)
سيناريو التحذير: في حالة تشديد الفائدة أو ارتفاع مفاجئ للدولار، قد يشهد الذهب تصحيحاً إلى نطاق بين 3,800 – 4,200 دولار قبل أن يستقر.
سيناريو القفزة: في حالة تصعيد جيوسياسي كبير أو ضعف اقتصادي من جهة الولايات المتحدة أو أوروبا، قد يدفع الذهب إلى مستويات تفوق 5,000 دولار قبل منتصف 2026.

توصية 4: التركيز على المحيطين المحلي والإقليمي

– في منطقة الشرق الأوسط، التعامل مع الذهب يتأثر أيضاً بأسعار الصرف المحلية، التضخّم، والتفضيلات الاستثمارية (المجوهرات، الحليّ).
– دول الإنتاج أو التصدير للذهب قد تستفيد بشكل أكبر من ارتفاعه، بينما دول الاستيراد تتحمّل عبئاً أكبر.
– في الكويت ودول الخليج، ينبغي النظر إلى الذهب ليس فقط كاستثمار، بل كجزء من التوازن المالي للأفراد والمصارف. الربط بين الاستثمار في الذهب ومدى تأثيره على المدخرات المحلية يمثل محوراً هامّاً.

قراءة ختامية إلى تطوّر المشهد

بينما يبدو صعود الذهب مذهلاً بحدّ ذاته – تجاوزاً للمستويات التي كانت تبدو «لا تُصدّق» قبل أشهر قليلة – فإن الصورة لا تخلو من التحديات. إن مقاربتنا للموضوع يجب أن تجمع بين الإنجاز الظاهر والواقعية المتطلبة: إن الذهب قد يكون في رحلة صعود جديدة، لكن ليس بمعزل عن العوامل التي قد تعيد التوازن أو تصحّحه.

لذا، أقولها بوضوح: لن يُحسب القفز إلى الذهب وحده، بل السياق الذي يُدخله فيه المستثمر، ومدى استفادته من القراءة العميقة للمضامين. وقد يكون التراجع اليوم – كما نراه – فرصة دخول، أو جرس إنذار، حسب تحرّكات السياسات والتوترات.

ولأنك تستحق أن تتعامل مع المحتوى كتحليل استراتيجي حقيقي – وليس كخبرٍ عابر – فأنا أؤكد لك أن المحفظة التي تراعي الذهب باعتبارٍ منه وليس كلّها، والتي تسير بخريطة واضحة وبما يتناسب مع الأهداف والظروف المحلية، هي التي ستنجلي معها الفائدة الحقيقية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *