غير مصنف

الذهب والنفط بين قرارات الفيدرالي الأميركي وتحوّلات الجغرافيا السياسية: قراءة استراتيجية في لحظة اقتصادية شديدة الحساسية

 

يشهد الاقتصاد العالمي هذه الأيام واحدة من أكثر اللحظات حساسية منذ سنوات. فالتقلبات المتتالية في أسعار الذهب والنفط، والتحركات العصبية في أسواق العملات، والتصريحات المتضاربة من البنوك المركزية، كلها تشكّل مشهداً معقداً يتداخل فيه النقدي بالسياسي، والاقتصادي بالجيوستراتيجي، في وقت تُعاد فيه صياغة موازين القوى داخل النظام المالي العالمي.

هذه التطورات لا يمكن النظر إليها على أنها مجرد أرقام تتغير صعوداً أو هبوطاً على شاشات التداول. فهي، في حقيقتها، مؤشرات عميقة على حالة الاقتصاد العالمي، وعلى شكل الصراعات المقبلة، وعلى الخيارات الصعبة التي ستجد الحكومات نفسها مضطرة لاتخاذها خلال الأشهر القليلة القادمة.

 

أولاً: الذهب… مؤشر القلق ودليل التحولات العميقة

لم يكن ارتفاع الذهب مفاجئاً في حد ذاته. فالذهب يرتفع كلما شعر المستثمرون بأن هناك ما يهدد استقرار الاقتصاد العالمي أو عملاته الرئيسية. لكن ما يثير الانتباه اليوم، هو أن الصعود الأخير لم يكن نتيجة صدمة مفاجئة، بل بفعل توقعات واضحة ومعلنة بشأن اتجاه الفيدرالي الأميركي لخفض أسعار الفائدة.

هذا الارتفاع يعكس في جوهره ثلاثة عناصر رئيسية:

1. ضعف الدولار نتيجة ترقب خفض الفائدة

عندما يتراجع الدولار، يصبح الذهب المقوّم بالدولار أقل تكلفة لحاملي العملات الأخرى، فيزيد الطلب عليه. لكن السبب الأهم هنا هو أن المستثمرين باتوا يرون أن السياسة النقدية الأميركية على وشك دخول مرحلة جديدة، عنوانها التيسير لا التشديد. وهذا يعني أن الفائدة — التي كانت سلاح الفيدرالي لاحتواء التضخم — بدأت تفقد زخمها.

هذا ليس مجرد انتقال تقني بين سياسات نقدية، بل إشارة إلى أن الاقتصاد الأميركي، رغم قوته الظاهرة، بدأ يفقد بعض زخمه. وهو ما تلمّحت له بيانات سوق العمل وإنفاق المستهلكين.

2. الذهب كملاذ في مواجهة الغموض العالمي

العالم يعيش حالة من القلق الدائم:
حرب في أوكرانيا بلا نهاية واضحة، شرق أوسط يغلي، صعود قوى جديدة في آسيا، ومنافسة استراتيجية شرسة بين الصين والولايات المتحدة. كل هذا يجعل الذهب أكثر من مجرد أصل استثماري؛ إنه “تأمين” ضد المجهول.

3. توقعات التيسير النقدي تمنح الذهب مساحة إضافية للصعود

خفض الفائدة يضر الدولار ويدعم الأصول التي لا تُنتج عائداً ثابتاً، مثل الذهب. وهذا يجعل الذهب أمام فرصة لتحقيق قمم جديدة خلال الأشهر المقبلة، خصوصاً إذا تزامن ذلك مع أي توتر جيوسياسي مفاجئ أو تباطؤ اقتصادي في الولايات المتحدة أو أوروبا أو الصين.

ثانياً: النفط… سلعة استراتيجية تتحرك على خريطة معقدة

خلافاً للذهب، لا يتحرك النفط فقط وفق قواعد اقتصادية، بل يتأثر قبل كل شيء بالجغرافيا السياسية. لذلك كان من الطبيعي أن يتأرجح في تداولات اليوم رغم توقعات خفض الفائدة، فالسوق تتابع تطورات أبعد من السياسة النقدية، أبرزها:

1. المخاطر الجيوسياسية في روسيا وفنزويلا

روسيا ثاني أكبر مصدر نفط في العالم، وأي اضطراب في صادراتها يترك أثراً مباشراً على الأسعار. أما فنزويلا، فرغم أنها ليست في موقع روسيا من حيث الكميات، فإن وضعها يمثل جزءاً من لعبة النفوذ السياسي في سوق الطاقة.

عندما تبدأ الولايات المتحدة أو أوروبا بإعادة النظر في العقوبات، أو عندما تتغير السياسة الداخلية في أي منهما، يشعر السوق بأنه أمام مرحلة جديدة يمكن أن تعيد ترتيب مسارات الإمداد.

2. مفاوضات السلام في أوكرانيا… تأثير مباشر وغير مباشر

المفاوضات بطيئة، والمعطيات على الأرض لا توحي بحل سريع. أي تقدم قد يعني عودة أكثر استقراراً في تدفق الطاقة من روسيا إلى الأسواق، بينما أي انتكاسة ستزيد الضغط على الأسعار. لهذا السبب يتعامل المستثمرون بحذر شديد.

3. تحركات مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي

الدعوات لحظر الخدمات البحرية المرتبطة بالنفط الروسي ليست تفصيلاً تقنياً، بل ورقة ضغط كبرى. تطبيقها أو التراجع عنها سيغير جذرياً خريطة التجارة العالمية.

4. تحولات الطلب العالمي وتأثير الفائدة

خفض الفائدة يعني اقتصاداً أكثر نشاطاً، وبالتالي زيادة في الطلب على الطاقة. لهذا السبب تحسنت أسعار النفط في بداية تداولات اليوم. لكن الحذر بقي مسيطراً بسبب ملف أوكرانيا والعقوبات وتحركات الصين التي زادت مشترياتها من النفط الإيراني المخزن.

ثالثاً: قراءة في سلوك المستثمرين… ما الذي يبحثون عنه؟

من الصعب فهم تحركات الذهب والنفط اليوم من دون النظر إلى عقل المستثمر. فالمستثمر المحترف لا يراقب الأسعار فقط، بل يحاول قراءة الاتجاهات الكبرى.

1. المستثمرون يتوقعون مرحلة اقتصادية انتقالية

البيانات الأخيرة من الولايات المتحدة تشير إلى تباطؤ في سوق العمل وإنفاق المستهلكين. هذا يعني أن التضخم قد يهدأ، لكن النمو كذلك. ومن هنا، يصبح خفض الفائدة أداة ضرورية لتجنّب أي تباطؤ حاد.

2. الأسواق تبني على ما قبل القرار، لا على القرار نفسه

عندما يكون احتمال خفض الفائدة 88%، فهذا يعني أن السوق سعّر القرار مسبقاً. المهم الآن هو لغة الفيدرالي وما سيقوله عن الأشهر القادمة.

3. الذهب يستفيد من كل السيناريوهات تقريباً

في سيناريو تباطؤ الاقتصاد: الذهب ملاذ.
في سيناريو التوتر السياسي: الذهب ملاذ.
في سيناريو ضعف الدولار: الذهب ملاذ أيضاً.

هذه مفارقة تجعل من الذهب سلعة في موقع استراتيجي استثنائي.

4. النفط يتحرك ضمن حسابات أكثر حساسية

أي تحسن اقتصادي عالمي يعني ارتفاع الطلب. لكن أي توتر سياسي قد يعطل الإمدادات ويخفض العرض. لذلك يتحرك النفط في مساحة ضيقة بين صعود وهبوط، بانتظار حدث كبير يحسم الاتجاه.

رابعاً: مستقبل أسعار الذهب… إلى أين؟

لن نتنبأ بأرقام محددة، لكن الصورة العامة تسمح برسم مسار محتمل:

  • إذا خفّض الفيدرالي الفائدة فعلاً، سيزداد الضغط على الدولار.
  • ومع ارتفاع التوترات العالمية، سيبقى الذهب خياراً جذاباً.
  • إذا شهدت الأسواق موجة بيع في الأسهم، سيزداد الطلب على الذهب أيضاً.

هذا يعني أن الذهب أمام فرصة قوية للصعود، وربما تسجيل مستويات أعلى من تلك التي رأيناها خلال هذا العام، خصوصاً إذا جاءت بيانات التضخم المقبلة أقل من المتوقع.

خامساً: مستقبل النفط… مفترق طرق بين السياسة والاقتصاد

مصير النفط لا تحدده السوق وحدها. هناك ثلاثة مسارات رئيسية:

1. المسار السياسي

إذا تقدمت مفاوضات أوكرانيا، واستقرت إمدادات روسيا، فقد تخفف الأسعار.
أما إذا تعثرت المفاوضات، أو توسعت العقوبات، فقد نشهد قفزة مفاجئة.

2. المسار الاقتصادي

تعافي الاقتصاد الصيني سيكون العامل الأكبر. الصين أكبر مستورد للطاقة في العالم، وأي زيادة في نشاطها الصناعي تعني طلباً إضافياً ضخماً على النفط.

3. المسار الأميركي

إعادة تشكيل الاستراتيجية الأميركية تجاه فنزويلا وإيران وروسيا سيبقى عاملاً حاسماً. كل قرار يمكن أن يؤثر في ملايين البراميل يومياً.

سادساً: النظام المالي العالمي في مرحلة إعادة كتابة قواعده

خلف كل ما سبق، هناك قصة أكبر: العالم يتحرك نحو نظام مالي جديد، أكثر تعددية وأقل اعتماداً على الدولار. هذا لا يعني نهاية الدولار، لكنه يعني أن العالم لم يعد يعتمد على قوة واحدة تقود كل شيء.

  • صعود اليورو واليوان.
  • توجه بعض الدول لشراء الذهب بشكل مكثف.
  • توسع الترتيبات التجارية خارج منظومة الدولار.

كلها إشارات على أن سنوات الهيمنة المطلقة للدولار قد تكون وراءنا، خاصة إذا استمر الفيدرالي في خفض الفائدة خلال العام المقبل.

سابعاً: ماذا يعني كل ذلك للقارئ؟

المواطن أو المستثمر الفرد يريد معرفة النتيجة العملية:

1. الذهب يبقى مخزناً للقيمة في المدى المتوسط

ليس لأنه سيرتفع دائماً، بل لأنه الأصل الأكثر قدرة على حماية الثروة في لحظات الاضطراب.

2. النفط سيظل متقلباً

لكن الاتجاه العام لن يكون هبوطياً طالما بقي العالم في حالة صراع أو تنافس جيوسياسي مفتوح.

3. الدولار قد يبقى تحت ضغط

خصوصاً إذا تكرر خفض الفائدة في 2025.

4. العالم ينتقل إلى اقتصاد أكثر تشتتاً

وهذا يعني أن القرارات الاقتصادية والسياسية في أي بلد يمكن أن تؤثر فوراً في الأسواق العالمية.

لماذا تعد هذه اللحظة من أهم لحظات الاقتصاد العالمي؟

لأنها لحظة يتقاطع فيها:

  • خفض محتمل للفائدة الأميركية
  • تباطؤ اقتصادي عالمي
  • صراعات سياسية مفتوحة
  • تغير في خريطة الطاقة
  • تنافس بين القوى الكبرى على النفوذ
  • إعادة تشكيل النظام المالي الدولي

هذه ليست مجرد دورة اقتصادية. إنها مرحلة انتقالية بين عالم يتراجع وعالم يولد.

والأسواق — الذهب، النفط، الدولار — ليست سوى مرايا تعكس هذا التغيير الكبير.

لذلك، ستظل هذه الفترة محطّ مراقبة حثيثة من المستثمرين والحكومات والمحللين. فالاتجاه الذي ستسلكه السياسة النقدية الأميركية، والنتائج التي ستسفر عنها مفاوضات أوكرانيا، وطبيعة العلاقة بين الغرب وروسيا والصين، كلها ستكون عوامل تحدد شكل الاقتصاد العالمي في السنوات المقبلة.

 

الاشتراك في خدمات شركة أمواج كابيتال

إذا كنت ترغب في الاستفادة من التقلبات الاقتصادية في الأسواق العالمية، يمكنك الآن
فتح حساب في شركة أمواج كابيتال من هنا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *