غير مصنف

زمن الهشاشة… هل تفقد واشنطن تاجها المالي؟

خفض التصنيف الائتماني الأمريكي.. والانقسام الأوروبي حول الفائدة يرسمان ملامح مشهد اقتصادي جديد

في زمن تتقلص فيه المسافات بين الأزمات وتتسارع فيه دورة القلق العالمي، لم يعد خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة مجرد خبر عابر في نشرات الاقتصاد، بل صار جرس إنذار مدوٍّ، يُسمع صداه في بورصات العالم، من نيويورك إلى فرانكفورت، ومن طوكيو إلى الكويت. وبينما يشهد الدولار انحسارًا مؤقتًا في قوته، يبدو أن منطقة اليورو هي الأخرى واقفة عند مفترق طرق حاسم، يتأرجح فيه القرار بين خفض الفائدة أو التريث، وسط ضبابية البيانات وتناقض المؤشرات.

دعونا نفتح هذا الملف المعقد، صفحةً بعد صفحة، لنفهم ما يحدث بالفعل في كواليس الاقتصاد العالمي، وما إذا كان ما نراه اليوم هو بداية حقبة مالية جديدة، قد تغيّر قواعد اللعبة التي عهدناها لعقود.

أولاً: أمريكاحين تتزعزع الثقة في معقل الثقة

أن تخفض وكالة “موديز” التصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة الأمريكية ليس حدثاً اقتصادياً فحسب، بل هو زلزال رمزي يهزّ عرش القوة المالية العالمية. فلطالما كانت أمريكا هي “الملاذ الآمن”، تُقاس عليها درجات المخاطر، وتُقدّر من خلالها درجات الاستقرار. غير أن خفض التصنيف من قبل واحدة من آخر الوكالات التي كانت تحافظ على هذا الامتياز – بعد أن سبقتها فيتش وستاندرد آند بورز في أعوام سابقة – يكشف لنا أن حتى الإمبراطوريات الاقتصادية لا تُعفى من المحاسبة.

بحسب تقرير موديز، فإن ما دفعها لاتخاذ هذا القرار هو تضخم الدين العام الأمريكي إلى مستويات غير مسبوقة، إذ بلغ 36 تريليون دولار – رقم يفوق الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، ويعادل الناتج الإجمالي لنحو 170 دولة مجتمعة. والأسوأ من ذلك، أن السياسة المالية الأمريكية لا تبدو متجهة نحو الانضباط، بل تتغذى على الوعود السياسية المتزايدة والإنفاق العسكري المتضخم والتخفيضات الضريبية غير المستدامة.

والسؤال الذي بدأ يتردد على ألسنة المستثمرين في وول ستريت وعواصم المال حول العالم هو: هل الولايات المتحدة، التي كانت دائمًا الحصن الأخير للثقة، بدأت تفقد هذه الهالة؟ هل باتت سنداتها مهددة بخسارة مكانتها كـ”أصل خالٍ من المخاطر”؟ وإن حدث ذلك، فكيف سيُعاد تسعير كل شيء آخر في العالم؟

ثانيًا: رد فعل الأسواقاليورو ينتعش ولكن!

بينما التقطت الأسواق هذا التطور المزعج، شهدنا ارتدادًا لافتًا في سعر صرف اليورو مقابل الدولار. ففي مستهل تعاملات الأسبوع، ارتفع اليورو بنسبة 0.35% ليصل إلى 1.1199 دولار، وهو ما اعتُبر بمثابة تصويت ثقة نسبي في استقرار المنطقة الأوروبية مقارنةً بما يحدث في الجانب الآخر من الأطلسي.

لكن لا يجب أن نُخدع بالارتداد السعري لليورو، فهو لا يعكس بالضرورة قوة حقيقية، بقدر ما يُظهر ضعفًا نسبيًا في الدولار. إذ أن العملة الأوروبية الموحدة نفسها محاطة بتحديات لا تقل خطورة: تباطؤ النمو، تضخم غير مستقر، وانقسام داخلي حول السياسات النقدية.

ثالثًا: أوروباالتردد بين المطرقة والسندان

تُجمع التقارير الاقتصادية الصادرة في أبريل على أن التضخم الأساسي في منطقة اليورو تجاوز التوقعات، ما أحرج البنك المركزي الأوروبي وعرقل خططه السابقة لخفض أسعار الفائدة في يونيو المقبل. فقد كان الحديث خلال الأشهر الماضية يدور حول بداية دورة تيسير نقدي بهدف دعم النمو، إلا أن أرقام التضخم عكّرت صفو تلك التوقعات، ودفعت الأسواق لإعادة تسعير احتمالات الخفض من 60% إلى أقل من 50%.

في ظل هذا التردد، تجد أوروبا نفسها أمام معادلة صعبة: هل تخاطر بكبح التضخم على حساب خنق النمو؟ أم تفرّج السياسة النقدية قبل الأوان وتغامر بإطلاق موجة تضخمية جديدة؟ يبدو أن القارة العجوز لا تملك إجابة موحّدة، ما يفتح الباب أمام مزيد من الضبابية.

رابعًا: الدولارنهاية الهيمنة؟ أم كبوة مؤقتة؟

الضعف الذي أصاب الدولار مؤخرًا لا يجب قراءته بسطحية. صحيح أن العملة الخضراء ما تزال الأقوى من حيث حجم التداول العالمي، وأن نسبة تقويم الاحتياطات النقدية بالدولار لا تزال تتجاوز 60%، لكن هناك مؤشرات يجب عدم إغفالها.

الصين تسرّع خطواتها نحو ترويج اليوان في التجارة الدولية. روسيا والبرازيل والهند تبحث عن أدوات تسوية بديلة للدولار. وحتّى دول الخليج، بدأت تنظر بريبة إلى الاعتماد الكلي على الدولار في عقود الطاقة. وإذا ترافق ذلك مع تراجع التصنيف الائتماني الأمريكي، فقد تكون أمامنا بدايات تحول في المنظومة النقدية العالمية، وإن كان بطيئًا، لكنه محتمل.

خامسًا: البنوك المركزيةاللاعب الوحيد المتبقي؟

في خضم كل هذه الفوضى المالية، تظل البنوك المركزية هي الجهة الوحيدة التي تحاول الحفاظ على النظام. لكن هل تملك هذه البنوك فعلاً ما يكفي من الأدوات؟ السياسة النقدية وحدها لم تعد كافية. التحفيز المفرط قد يولد فقاعات، والتقشف الشديد قد يغرق الاقتصادات في الركود.

وبين أوروبا التي تتردد، وأمريكا التي تنفق بدون سقف، والصين التي تراقب من بعيد، تبدو الأسواق كمن يقود سيارة في الظلام… دون مصابيح أمامية.

ختامًا: إلى أين نتجه؟

في الأيام الماضية، حملت الأسواق أنفاسها على وقع قرارات التصنيف والمواقف النقدية، لكنها لم تجد يقينًا. والسؤال الحقيقي الذي يشغلنا اليوم في “المال والأعمال العالمية” ليس: ماذا يحدث؟، بل: ماذا سيحدث بعد ذلك؟

هل نحن أمام بداية حقيقية لنهاية عهد الدولار المطلق؟ وهل باتت أوروبا قادرة على لعب دور قيادي في النظام المالي العالمي، أم أنها لا تزال سجينة تناقضاتها الداخلية؟ وكيف سيتفاعل المستثمرون حول العالم مع هذا التحول؟ هل سنرى تسعيراً جديداً للمخاطر؟ وهل سيكون الذهب، كما في كل أزمة، هو الملاذ الأخير؟

في مثل هذه اللحظات من الغموض، تبرز أهمية التحليل الرصين، والنظر بعيدًا عن ردود الفعل اللحظية. وكما علمتنا التجارب السابقة، فالأزمات لا تصنع المستقبل… بل تكشفه فقط.

فلنُبقي أعيننا مفتوحة، ولنعِ أن ما نشهده اليوم ليس مجرد أرقام وتصنيفات، بل إعادة كتابة صامتة لقواعد اللعبة المالية العالمية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *