غير مصنف

الغموض الاقتصادي يؤجل خفض الفائدة: السياسة النقدية بين الترقب والتحديات

عندما يتحدث مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي عن “الانتظار والترقب”، فإن هذه الكلمات لا تعكس فقط استراتيجية مرحلية، بل تكشف عن معضلة أعمق تواجه السياسة النقدية الأميركية في هذه المرحلة الحرجة. تصريحات أوستان جولسبي، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو وعضو لجنة تحديد أسعار الفائدة، التي تشير إلى أن أسعار الفائدة قد تكون “أقل بكثير” خلال 12 إلى 18 شهرًا، لكنها في الوقت نفسه قد لا تنخفض بالسرعة التي يأملها السوق، تعكس توازنًا دقيقًا بين الطموح الاقتصادي والواقع النقدي.

الفيدرالي بين التضخم وعدم اليقين

ما يجري اليوم ليس مجرد تأجيل تقني لخفض الفائدة، بل هو جزء من معركة مستمرة يخوضها الفيدرالي ضد التضخم. إذا كان الهدف هو إعادة الاستقرار النقدي دون دفع الاقتصاد إلى ركود حاد، فإن الحذر يصبح ضرورة، لا خيارًا. المشكلة الأساسية تكمن في أن الأسواق المالية تفسر أي تأخير في خفض الفائدة على أنه مؤشر على استمرار الضغوط التضخمية، ما يؤدي إلى ردود فعل غير متوقعة في الأسهم والسندات، وهو ما بدأنا نلمسه بالفعل.

التضخم، بصفته المتغير الأكثر حساسية في معادلة السياسة النقدية، لا يزال متقلبًا، حيث تشير البيانات الأخيرة إلى أنه رغم التراجع عن ذروته، إلا أنه لم يصل بعد إلى المستوى الذي يطمئن صانعي القرار. هذا يجعل الفيدرالي حذرًا من إرسال أي إشارات قد تثير موجة جديدة من التوقعات التضخمية، وهو ما وصفه جولسبي بـ”الإشارة الحمراء” التي قد تعقد الأمور أكثر.

الاقتصاد والسياسة: تأثير العوامل الخارجية

لكن المعضلة لا تتوقف عند التضخم فحسب. فالسياسات التجارية والتغييرات الضريبية، مثل زيادة الرسوم الجمركية التي أشار إليها رئيس الفيدرالي جيروم باول، تضيف تعقيدات أخرى. رغم أن باول يقلل من شأن تأثير هذه العوامل على المدى الطويل، إلا أن الأسواق لا تنظر إليها بذات الهدوء، حيث يمكن أن تؤثر بشكل مباشر على الأسعار وسلاسل التوريد، مما يجعل السيطرة على التضخم أكثر صعوبة.

ماذا بعد؟

يبدو واضحًا أن الاحتياطي الفيدرالي لا يريد تكرار أخطاء الماضي، حيث أدى التسرع في تخفيف السياسة النقدية في بعض الفترات إلى موجات تضخمية لاحقة. اليوم، هو يحاول تحقيق توازن بين عدم خنق النمو الاقتصادي وبين ضمان أن التضخم لن يعود بقوة في المستقبل القريب.

لكن السؤال الذي يظل مطروحًا هو: إلى متى يمكن للأسواق والاقتصاد تحمل هذا الانتظار؟ تكلفة الاقتراض المرتفعة تضغط على الشركات والأفراد، وتؤخر الاستثمارات، وتعيد تشكيل خريطة التمويل العالمية. في المقابل، يبقى الفيدرالي متمسكًا باستراتيجيته، رافضًا الانسياق وراء توقعات السوق ما لم تتأكد له البيانات الاقتصادية الفعلية.

في النهاية، نحن أمام مرحلة من الحذر الاستراتيجي لا يبدو أنها ستنتهي قريبًا. وربما يكون الرهان الآن ليس على توقيت أول خفض للفائدة، بل على مدى قدرة الفيدرالي على إدارة هذا الترقب دون أن يفقد ثقة الأسواق، وهي المهمة الأكثر تعقيدًا في عالم الاقتصاد اليوم.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *